تحت عنوان «6 أغسطس الفرحة الكبرى في مصر وذكرى مليئة بالألم والمرارة في اليابان» تناولت في مقالي الأحد الماضي على هذه الصفحة الفرحة التي عمت ربوع مصر المحروسة في الاحتفال المهيب بافتتاح قناة السويس الجديدة، والتي لم تخلُ من ذكريات مريرة، حول حفر قناة السويس الأولى في عام 1859، والذي راح ضحيته أكثر من مئة وعشرين ألفاً من الفلاحين المصريين، ماتوا جوعا وعطشا ومرضا، وهم يحفرون القناة بالسخرة، وكم كنت أتمنى لو أن هذا الاحتفال المهيب بافتتاح القناة الجديدة، والذي أعد له إعدادا جيدا، قد بدأ بعد تلاوة القرآن الكريم، بطلب من الرئيس السيسي الوقوف حداداً لمدة دقيقتين على أرواح شهداء القناة الأولى، لأن هاتين الدقيقتين كانتا ستعطيان الرمز لتضحيات هذا الشعب التي قدمها للتجارة العالمية، ولرخاء العالم وللنفط إكسير حياة الشعوب في العالم كله.

Ad

وكان للحديث بقية حول ذكرى أخرى مليئة بالمرارة والألم يوم 6 أغسطس أحياها اليابانيون ونشطاء حقوق الإنسان في اليابان، رأيت أن أفرد لها هذا المقال.

6 أغسطس في اليابان  

ففي هذا اليوم الذي فرح فيه المصريون بافتتاح قناتهم الجديدة، وشغلهم هذا الافتتاح المهيب عن إحياء ذكرى أرواح المصريين المئة وعشرين ألفاً الذين ماتوا في حفر القناة الأولى، كان اليابانيون ونشطاء حقوق الإنسان في العالم كله يجتمعون في هيروشيما، في اليابان لإحياء الذكرى السبعين لأول هجوم نووي في تاريخ البشرية نفذته قاذفة قنابل أميركية على المدينة اليابانية الكبيرة هيروشيما.

ووقف 55 ألف شخص إحياء للذكرى وتأبينا للضحايا، القنبلة التي بلغت قوتها التدميرية 16 ألف طن من مادة «تي أن تي» رفعت درجة الحرارة على الأرض إلى 4000 درجة مئوية وقضت على كل شيء حولها.

ولم تقنع الولايات المتحدة الأميركية بالقتل والدمار الذي حققته تجربتها الذرية الأولى، فانطلقت في التاسع من أغسطس قاذفة أميركية لتلقي القنبلة الذرية الثانية على مدينة ناغازاكي، وراح ضحية الهجومين من القتلى 140 ألف شخص، وألوف مؤلفة من الذين بترت أجزاء من أجسامهم أو أصيبوا بتشوهات خلقية أو بأمراض عصية على الشفاء، فقد وصلت آثار التدمير التي أحدثتها القنبلتان إلى أكثر من مئة كيلو، ويروي الأحياء منهم، في هذه المواقع البعيدة عن مواقع الانفجار أن فتاة تدلت عيناها من محجرهما، وأن آخر بترت أذناه، وأن ثالثا خرجت أحشاؤه.

ومن الطريف أن الولايات المتحدة الأميركية كانت من بين من شارك اليابانيين إحياء هذه الذكرى المريرة، وعلى حد تعبير المثل الشعبي «يقتل القتيل ويمشي في جنازته».

هوس أميركا اللاواعي بالعظمة

ولم يكن انتصار الحلفاء على النازية أو الفاشية أو اليابان في حاجة إلى هذه القنبلة أو تلك لتغيير مسار الحرب العالمية الثانية، التي كانت قد انتهت تماما بانتصار الحلفاء، ولكن أميركا في هوسها اللاواعي بالعظمة أرادت أن تنتقم لسفينتها التي أغرقتها اليابان في بيرل هاربر.

وهي لا تزال في هوسها اللاواعي بالعظمة تعتقد أنها تستطيع وبمقدورها أن تدافع عن حقوق الإنسان جنباً إلى جنب مع خطاياها في فلسطين في الدفاع عن الحق الشرعي لإسرائيل في حماية أمنها، بحرق الأطفال أحياء، مكتفية بشجب الجريمة النكراء التي ارتكبت مؤخرا في نابلس بفلسطين من المستوطنين الصهاينة الذين قتلوا الطفل الرضيع علي الدوابشة بإحراقه حيا، عندما أضرموا النار في منزل أسرته، التي أصيب أفرادها بحروق متفاوتة الدرجات، وهي على استعداد دائما وفي كل وقت لاستخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لإجهاض أي قرار يدين إسرائيل بارتكاب الجرائم البشعة التي ترتكبها في حق الإنسان الفلسطيني، الذي تحتل أرضه بالمخالفة لكل المواثيق الدولية واتفاقيات جنيف.

أميركا وإسرائيل فوق المحاسبة

ولعل أميركا في هوسها اللاواعي بالعظمة، وإسرائيل في هوسها اللاواعي بأن شعبها هو شعب الله المختار، قد ترسخت لديهما عقيدة بأنهما فوق المحاسبة الدولية.

وقد تجلى ذلك في المحكمة الجنائية الدولية، عندما انسحبت أميركا وإسرائيل من هذه المحكمة بعد انضمامهما إليها ولعله من المفيد أن نروي قصة إنشاء هذه المحكمة من البداية، والأفكار التي قامت عليها فكرتها، والعقبات التي حالت دون تنفيذها ردحا من الزمن.

المحكمة الجنائية الدولية

وكانت بداية فكرة إنشاء محكمة جنائية دولية، بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وهي الحرب التي راح ضحيتها عشرون مليون شخص، حيث بدأ التفكير في إنشاء هذه المحكمة، لمحاكمة مجرمي الحرب.

وقامت عصبة الأمم المتحدة، التي نص ميثاقها على أن يتولى مجلس العصبة مشروع إنشاء محكمة العدل الدولية الدائمة وعرضه على الدول الأعضاء، وشكل لجنة استشارية لتقديم هذا المشروع، لم تأل جهداً في بحث فكرة إنشاء محكمة جنائية دولية، فقدمت مشروعا لإنشاء هذه المحكمة، كما قدمت مشروعا آخر بإنشاء شعبة جنائية خاصة لهذا الغرض ضمن نطاق محكمة العدل الدولية الدائمة، ولم يكتب لأي من المشروعين النجاح.

وعندما أنشئت هيئة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها الذي تدعو فيه لجنة القانون الدولي لبحث مدى الرغبة والإمكانية لتأسيس محكمة جنائية دولية لمحاكمة الأشخاص المتهمين في جرائم الإبادة الجماعية، أو أي جريمة أخرى أو تأسيس محكمة جنائية دولية ضمن إطار محكمة العدل الدولية.

وقدمت فرنسا إلى الجمعية العامة للهيئة مشروع قرار باعتبار محاكمات نورمبرغ وطوكيو محاكم ليس لها صفة دولية، لأنها تمثل إرادة الدول المنتصرة التي تفرضها بالقوة على الدول المغلوبة، ومطالبة فرنسا بإعطاء محكمة العدل الدولية صلاحية النظر في الجرائم التي يرتكبها رؤساء الدول ومجرمو الحرب، وتأسيس محكمة جنائية دولية تمنح صلاحية البتّ في الجرائم ذات الصفة الدولية.

محاكمة رؤساء الدول والحكومات

وقد واجهت اتفاقية نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية مسؤولية القادة والرؤساء في المادتين 27، 28 بأن نصت أولاهما على تطبيق نظام المحكمة على جميع الأشخاص بصورة متساوية من دون تمييز بسبب الصفة الرسمية.

كما أضافت بأن الصفة الرسمية للشخص، سواء كان رئيسا لدولة أو حكومة أو عضوا في حكومة أو برلمان أو كان ممثلا منتخبا أو موظفا حكوميا لا تعفيه بأي حال من الأحوال من المسؤولية الجنائية بموجب النظام الأساسي للمحكمة، وأضافت أن الصفة الرسمية لهولاء ليست سببا لتخفيف العقوبة.

وأقامت المادة 28 المسؤولية الجنائية لرؤساء الدول والحكومات، وأي شخص يتمتع بإحدى الصفات الرسمية السابقة عن الجرائم التي يرتكبها المرؤوسون نتيجة عدم ممارسة سيطرته على هؤلاء المرؤوسين ممارسة سليمة، وكانت الولايات المتحدة الأميركية قد انضمت إلى اتفاقية روما بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، وأوحت لربيبتها إسرائيل بالانضمام إلى المحكمة لجر عدد أكبر من الدول للانضمام إليها، وهما تضمران الانسحاب منها بعد إنشائها، لتمارس الولايات المتحدة الأميركية من خلال المحكمة معاييرها المزدوجة، في تهديد الدول التي تخرج عن طاعتها بهذه المحكمة، وتطبق معاييرها المزدوجة في حماية حقوق الإنسان.