مجدداً يعطي الشعب الكويتي الصغير بعدده ورقعته درساً كبيراً بأفعاله وتضامنه للعالم، على أثر الجريمة الإرهابية التي هزت مسجد الصادق الجمعة الماضية، وخطفت أرواح 27 إنساناً غالياً علينا، سواء كانوا إخواناً لنا في الوطن أو في الإنسانية والدين، جميع الأحداث التي توالت بعد الجريمة من الحضور الفوري لسمو أمير البلاد وأركان الدولة، كان لها أثر مهم مادياً ومعنوياً، وكذلك الشكل الرائع للكويتيين في مراسم العزاء وجهود المواطنين ورجال الأمن.

Ad

مظاهر الألفة والتكاتف هي سمات الكويتيين من الأزل، لكن بعد أن لملمنا الجرح الغائر في نفوسنا جميعاً، ماذا بعد؟... ماذا بعد الفعل الإنساني والتضامني؟... بالتأكيد المطلوب هو القراءة والتحليل للجريمة وبداية العمل الجاد للوقاية وتحصين المجتمع من التطرف والإرهاب، خاصة أن من قدم الدعم والتجهيز اللوجستي للانتحاري هم مواطنون ومقيمون بصورة غير قانونية (بدون) درسوا وتربوا في مدارسنا وعاشوا بيننا.

الخلاصة اللافتة والمهمة للجريمة أن "الأحزمة الناسفة" وصلت إلى الكويت، وهناك أناس مدربون على نقلها وتجهيزها وتركيب الصاعق لتفجيرها، وهو أخطر ما في الأمر، فعندما تصبح هذه التقنية متوافرة لأناس داخل البلاد يصبح الخطر قائماً ودائماً، إذ كل الأحداث الإرهابية المحدودة التي شهدتها الكويت سابقاً كانت تتم بأسلحة نارية يمكن التعامل معها، ولكن الجديد والمقلق هو دخول حزام ناسف أو أكثر إلى البلاد، وتعامل أفراد مدربين معها، وهو الأمر الذي يتطلب جهداً مركزاً من أجهزة الأمن لحصرهم والقبض عليهم، ووضع الذي تدرب منهم ولم يقم بفعل جرمي حتى الآن تحت المراقبة الدقيقة.

أما في ما يخص نسف العقول، والمتمثل في مروجي الفكر المتطرف، فهو العمل الأكبر والأضخم لمحاربة هؤلاء الإرهابيين، وهو أمر يتطلب قراراً حكومياً جريئاً بفتح كل الملفات المتعلقة بالمناهج والإعلام وعلاقة السلطة بالتيارات الأصولية، لاسيما أن الدولة مازالت مصممة على محاربة الفكر الأصولي المتطرف بالخطاب الديني نفسه، وهو الأمر الذي لم ينجح في الكويت وكذلك في المملكة العربية السعودية منذ أحداث سبتمبر 2001، ونرى نتيجة لذلك تمدد الفكر المتطرف إلى دولة داعشية تنشر الرعب والإرهاب والدمار في كل المنطقة.

لذا فإن المرحلة المقبلة لا تتحمل تدوير الزوايا، والالتفاف على الحقائق ومحاربة التطرف بالإعلانات في الشوارع والتلفزيون بشعارات مستهلكة مثل "كن وسطياً"!... ولا يجوز أن نحقن أبناءنا في المناهج والجامعات بفيروس التطرف، ثم نبحث عن العلاج بعد أن ينتشر ذلك الفيروس في عقولهم، وعلينا اليوم قبل الغد أن نفتح كل المناهج وفي جميع المراحل، ونراجع كذلك الجدوى من استمرار كلية الشريعة والقيمة العملية لخريجيها، وحسم موضوع ما يسمى باستكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وأيضاً مراجعة كمية البرامج الدينية في المرئي والمسموع ومدة بثها، إضافة إلى ضرورة إيضاح وبلورة رسالة معرفية عبر وسائل التربية والإعلام المختلفة وخاصة للشباب بأن خرافة إنشاء دولة إسلامية على غرار "الخلافة" لن تحدث في زماننا هذا مطلقاً، لأن البشرية انتهت إلى النموذج القائم للدولة بشكلها المدني الحديث، ولا يمكن أن تتقبل أو تتعايش مع خلاف ذلك النموذج.