تطور العمل

نشر في 17-12-2015
آخر تحديث 17-12-2015 | 00:01
فتح اقتصاد ما بعد الصناعة هوة جديدة في سوق العمل، بين أولئك الذين يعملون في وظائف الخدمات المستقرة العالية الأجر والمرضية وأولئك الذين يعملون في وظائف مؤقتة عابرة ومتدنية الأجر وغير المرضية.
 بروجيكت سنديكيت من المقرر أن تصدر منظمة الأمم المتحدة في منتصف ديسمبر أحدث تقاريرها السنوية عن التنمية البشرية، ويركز تقرير هذا العام على طبيعة العمل: كيف تتحول الطريقة التي نكسب بها عيشنا بفِعل العولمة الاقتصادية، والتكنولوجيات الجديدة، والإبداعات في مجال التنظيم الاجتماعي، ولا ريب أن آفاق البلدان النامية بشكل خاص متباينة إلى حد كبير.

الواقع أن العمل أمر غير سار بالنسبة إلى أغلب الناس في أغلب الوقت، فتاريخياً كان القيام بقدر كبير من العمل المضني هو الكيفية التي أصبحت بها البلدان غنية، ومن خلال الثراء يتسنى لبعض الناس الحصول على الفرصة للقيام بعمل سار.

فبفضل الثورة الصناعية، قدمت التكنولوجيات الجديدة في المنسوجات القطنية، والحديد والصلب، والنقل مستويات متزايدة الارتفاع من إنتاجية العمل للمرة الأولى في التاريخ، وفي بريطانيا أولاً في منتصف القرن الثامن عشر، ثم في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، تدفق الرجال والنساء من المناطق الريفية إلى المدن لتلبية طلب المصانع المتزايد على العمل.

ولكن على مدى عقود لم يكسب العمال إلا القليل من الفوائد المترتبة على ارتفاع الإنتاجية، فقد عملوا لساعات طويلة في ظروف خانقة، وعاشوا في مساكن مزدحمة وغير صحية، ولم تشهد دخولهم نمواً يُذكَر، بل إن بعض المؤشرات، مثل متوسط طول قامات العمال، تقترح أن مستويات المعيشة ربما كانت في انخفاض لفترة من الوقت.

وفي نهاية المطاف، حولت الرأسمالية نفسها، وبدأت مكاسبها تتوزع على نطاق أكثر اتساعا، ويرجع هذا جزئياً إلى أن الأجور بدأت ترتفع بطبيعة الحال مع نضوب معين الفائض من العمال الريفيين، ولكن ما لا يقل عن هذا أهمية هو أن العمال نظموا أنفسهم للدفاع عن مصالحهم، وخوفاً من اندلاع الثورات تنازل أرباب الصناعة، وامتدت الحقوق المدنية والسياسية إلى الطبقة العاملة.

وعملت الديمقراطية بدورها على ترويض الرأسمالية، فتحسنت ظروف العمل مع نجاح تكليفات الدولة أو الترتيبات التفاوضية في خفض ساعات العمل، وتوفير قدر أعظم من السلامة، فضلاً عن الفوائد الأسرية والصحية وغير ذلك من الفوائد، وبفضل الاستثمار العام في التعليم والتدريب أصبح العمال أكثر إنتاجية وأكثر حرية في ممارسة الاختيار.

ونتيجة لهذا، ارتفع نصيب العمال في فائض المؤسسات، ورغم أن وظائف المصانع لم تصبح سارة قط، فقد أصبحت الوظائف العمالية الآن قادرة على تمكين مستويات معيشة الطبقة المتوسطة، معل كل ما يصاحبها من الاحتمالات وفرص أنماط الحياة المختلفة.

وفي نهاية المطاف، تسبب التقدم التكنولوجي في تقويض الرأسمالية الصناعية، فقد ارتفعت إنتاجية العمل في الصناعات التحويلية بسرعة أكبر كثيراً من حالها في بقية قطاعات الاقتصاد، وبات من الممكن إنتاج الكمية نفسها أو أعلى من الصلب والسيارات والأجهزة الإلكترونية بالاستعانة بعدد أقل كثيراً من العمال. ولهذا، انتقلت العمالة "الفائضة" إلى صناعات الخدمات: التعليم، والصحة، والتمويل، والترفيه، والإدارة العامة، على سبيل المثال، وهكذا وُلِد اقتصاد ما بعد الصناعة.

وأصبح العمل أكثر إمتاعاً للبعض، ولكن ليس الجميع، فلكي يزدهر أولئك من أصحاب المهارات ورأس المال والذكاء في عصر ما بعد الصناعة، قَدَّمَت الخدمات فرصاً وفيرة، وبات بوسع المصرفيين، والمستشارين، والمهندسين الحصول على أجور أعلى كثيراً من تلك التي كان بوسع أسلافهم في العصر الصناعي الحصول عليها.

وعلى القدر نفسه من الأهمية، سَمَح العمل المكتبي بدرجة من الحرية والاستقلالية الشخصية التي لم تتوافر لعمال المصانع قط، ورغم ساعات العمل الطويلة (التي ربما كانت أطول من ساعات العمل في الوظائف الصناعية)، حظي من امتهنوا الخدمات بقدر أعظم من التحكم في حياتهم اليومية وقرارات العمل، ولم تكن أجور المعلمين والممرضين على سبيل المثال مجزية بالقدر نفسه، ولكنهم أيضاً تحرروا من العمل الميكانيكي الشاق الرتيب في المصانع.

ولكن بالنسبة إلى العمال الأقل مهارة كان العمل في وظائف قطاع الخدمات يعني التخلي عن الفوائد التفاوضية التي توفرها الرأسمالية الصناعية، وكثيراً ما كان الانتقال إلى اقتصاد الخدمات مصحوباً بانحدار قوة النقابات، وتراجع تدابير حماية العمالة، وقواعد المساواة في الأجور، الأمر الذي أدى إلى إضعاف قدرة العمال على المساومة وأمنهم الوظيفي إلى حد كبير.

وهكذا فتح اقتصاد ما بعد الصناعة هوة جديدة في سوق العمل، بين أولئك الذين يعملون في وظائف الخدمات المستقرة العالية الأجر والمرضية وأولئك الذين يعملون في وظائف مؤقتة عابرة ومتدنية الأجر وغير المرضية، وقد اشترك عاملان في تحديد نصيب كل نمط من الوظائف، وبالتالي مدى التفاوت الناتج عن انتقال ما بعد الصناعة: في تعليم قوة العمل ومستوى مهاراتهم، ومدى الطبيعة المؤسسية لأسواق العمل في الخدمات (فضلاً عن التصنيع).

وأصبحت مستويات التفاوت والإقصاء والازدواجية أكثر وضوحاً في البلدان، حيث كانت المهارات سيئة التوزيع وكانت الخدمات أقرب إلى الأسواق الفورية "المثالية"، وظلت الولايات المتحدة، حيث يضطر العديد من العاملين إلى شغل وظائف متعددة من أجل تحقيق مستويات الحياة اللائقة، المثال الأبرز لهذا النموذج.

ولا تزال الغالبية العظمى من العمال تعيش في بلدان ذات دخل منخفض ومتوسط، ولم تخضع لهذه التحولات، وهناك سببان للاعتقاد بأن مسار هذه الأغلبية في المستقبل لن يتخذ الوجهة نفسها تماما (أو لا ينبغي له ذلك).

فأولا، ليس هناك من الأسباب ما قد يمنع تحقق ظروف العمل الآمنة، وحرية تكوين الجمعيات، والمساومة الجماعية في مراحل مبكرة من التنمية مقارنة بما حدث تاريخيا، وكما لا ينبغي تماماً للديمقراطية السياسية أن تنتظر بالضرورة حتى ترتفع الدخول، فإن معايير العمل القوية لا ينبغي لها أن تأتي بالضرورة بعد التنمية الاقتصادية، ولا يجوز حرمان العمال في البلدان ذات الدخل المنخفض من حقوقهم الأساسية لمصلحة التنمية الصناعية وأداء الصادرات.

وثانيا، تضافرت قوى العولمة والتقدم التكنولوجي لتغيير طبيعة العمل في قطاع التصنيع على النحو الذي يجعل من الصعب للغاية، إن لم يكن من المستحيل، تمكين الوافدين الجدد من محاكاة خبرة التصنيع في بلدان النمور الآسيوية الأربعة، أو الاقتصادات الأوروبية والأميركية الشمالية من قبلها. والواقع أن العديد (إن لم يكن أغلب) من البلدان النامية أصبحت اقتصادات خدمية من دون الاضطرار إلى تطوير قطاع صناعي ضخم، وهي العملية التي أسميتها "انحسار التصنيع المبكر".

ولكن هل يكون انحسار التصنيع المبكر نعمة مقَنَّعة يتمكن بفضلها العمال في بلدان العالم النامي من تجاوز كدح التصنيع؟

إذا كان الأمر كذلك، فليس من الواضح كيف يمكن بناء مثل هذا المستقبل، ذلك أن المجتمع، حيث أغلب العمال مستقلون- أصحاب محال تجارية، أو مهنيون مستقلون من أصحاب العمل الحر، أو فنانون- وهم الذين يحددون شروط عملهم في حين يعيشون حياة لائقة، من غير الممكن أن يتحقق إلا عندما تكون إنتاجية كل قطاعات الاقتصاد مرتفعة للغاية بالفعل، إذ تتطلب الخدمات العالية الإنتاجية- مثل تكنولوجيا المعلومات أو خدمات التمويل- وجود عمالة جيدة التدريب، وليس ذلك النوع من العمال غير المهرة المتوافر بكثرة في البلدان الفقيرة.

هناك إذاً خبر سار وآخر مزعج بشأن مستقبل العمل في البلدان النامية، فبفضل السياسة الاجتماعية وحقوق العمل، بات بوسع العمال أن يصبحوا أصحاب مصلحة كاملين في الاقتصاد في مرحلة أسبق في عملية التنمية، ومن ناحية أخرى، من المرجح أن يعمل المحرك التقليدي للتنمية الاقتصادية- التصنيع- بقدرة أقل كثيرا، وستشكل التركيبة الناجمة عن ذلك من ارتفاع الإنفاق العام وانخفاض القدرات المنتجة للدخل تحدياً كبيراً للاقتصادات النامية في كل مكان.

* داني رودريك ، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جون كينيدي لدراسات الإدارة والحكم في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب "الاقتصاد يحكم: الصواب والخطأ في العلم الكئيب".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top