قام الزبيريون الأوائل بتكوين جسر التواصل بين الصحراء والمدينة، فقاموا بالتجارة الوسطى بين الطرفين، وبرعوا في القيام بدور الوسيط تماماً، وعمل بعضهم في بساتين البصرة وأبو الخصيب والبساتين الأخرى للحصول على قوت يومهم، وتوالت هجرة الأسر النجدية إلى هناك هروباً من الواقع المعيشي الصعب حيث لجأوا إلى أقاربهم ومعارفهم الذين سبقوهم، كما شجعت المنطقة الجديدة وحالتها التجارية على قدوم العديد من الأسر العراقية التي تعارفت مع الزبيريين أو تشاركت معهم تجارياً من مدن العراق المجاورة كالبصرة والعمارة وغيرها، حتى أصبحت المنطقة إمارة أو مدينة معروفة ذات خصوصية تميزها عن محيطها الاجتماعي والتجاري أيضاً.
وقد تتشابه بعض عاداتهم وطرق حياة الزبارة مع أهالي نجد لأنها البيئة الأصل التي لم تنقطع صلاتهم معها إلا نادراً، وقد تختلف هذه العادات بسبب ما اكتسبوه من عادات وتقاليد وأنماط حياتية جديدة ناتجة عن احتكاكهم وتواصلهم مع بيئتهم الجديدة عبر السنين والتواصل والصلة. وربما كانت نواة الزبير الاجتماعية السكان الأوائل الذين قدموا من عقيل وسدير، لكن جذور المهاجرين تعددت بعد ذلك من مختلف مناطق نجد، وخاصة قرى ومناطق جبل طويق، وساهم هذا التشابه في الجذور بين سكان الزبير وشريحة كبيرة من أهالي إمارة الكويت بالتواصل والصلة بين الإمارتين كثيراً، فقد تنقل بعض الأهالي بين الإمارتين لأسباب عدة، منها الخاص كالمشاكل التي تواجه الأفراد في الإمارتين فتضطرهم إلى اللجوء للإمارة الأخرى، ومنها العام الذي يرتبط عادة بظروف المعيشة والأحوال الأمنية والسياسية العامة والاجتماعية أيضاً من مصاهرات وأنساب وقرابات. الاستعداد للشهر يبدأ استعداد الزبيريين لشهر رمضان المبارك منذ أوائل شهر شعبان، والزبارة محافظون وأهل تقوى وصلاح، وانتشرت المساجد في مختلف أحياء ومحلات الزبير القديمة التي بناها الأهالي، وتحملوا تكاليفها من حر أموالهم، مما يدل على تدينهم وتقواهم، ويتم تجهيز المساجد منذ شعبان من خلال تنظيفها وفرشها أو تنظيف الفرش القديم إن كانت حالته جيدة، كما تتم إنارتها بعدد كبير من الفوانيس استعداداً لذلك وتنظيف الفوانيس القديمة، ويتم ملؤها بالزيت لاستقبال المصلين وقراء القرآن والمتعبدين ليلاً، وعلاوة على ذلك يتم الاستعداد للشهر الكريم أيضاً بتجهيز المنازل والبيوت بما تطلبه النساء من احتياجات المطبخ كالأطعمة والبهارات والأواني وبعض اللوازم الأخرى، وعادة ما يتم شراء غالبية هذه الاحتياجات من أسواق الزبير دون تجشم عناء الذهاب إلى أسواق أخرى خارج الإمارة، فقد عرفت الزبير بأنها سوق تجاري يقصده الكثيرون من الخارج، خصوصاً سكان الصحراء والبادية المتاخمة لها، وقد اعتاد الزبيريون غالباً أن يقوم الرجل بالتسوق وإحضار كل ما تطلبه ربات المنازل دون حاجة لذهاب المرأة من أجل هذه المهمة إلا نادراً، ويعتبر التمر والدهن والعدس والطحين والبرغل والبهارات والباجلا والسكر أهم ما يشتريه الناس استعداداً لشهر رمضان في تلك الأيام. النصف من شعبان وقريش كانت ليلة الخامس عشر من شعبان ثالث الأيام البيض مهمة ومشهودة، فقد دأب الأهالي على إحيائها احتفالاً، ويهتم الأطفال ومن هم دون سن الشباب بهذه الليلة اهتماماً بالغاً، فيخرجون جماعات بعد المغرب ويحتفلون سوياً بممارسة بعض الألعاب الليلية التراثية كالمقصي والجعاب، ثم يجتمعون بعد ذلك في منزل أحدهم أو في إحدى الساحات القريبة من منازلهم ويتناولون الأطعمة التي جلبوها من الدكاكين بعد أن يكونوا قد جمعوا مبلغاً من المال منهم جميعاً بما كان يعرف بالحطة. وأما قريش فهو اسم الليلة الأخيرة من شهر شعبان، حيث تجتمع النساء بعد المغرب، وقد أحضرت كل منهن طعاماً مطبوخاً أو أكلة من بيتها فإذا ما ثبتت رؤية هلال شهر رمضان؛ مُدّت السفرة ووضعت الأطعمة لتتناولها النساء احتفالاً بقدوم الشهر الكريم، كما يجتمع الرجال بدعوة من أحد الأهالي ويتناولون العشاء الشعباني الأخير، ولا يعرف للتسمية أصل لكنها كانت متداولة كممارسة في الزبير وفي عدة مناطق أخرى، كالكويت والإحساء وغيرها، وإن اختلفت الطريقة أو الوقت. رؤية الهلال اعتاد الزبارة أن يصعد الرجال إلى أسطح المساجد ومآذنها لرؤية هلال شهر رمضان خصوصاً من عرف على قوة النظر منهم، في ما تصعد النساء والأطفال إلى أسطح المنازل في اهتمام وترقب واضحين بقصد الحصول على خبر ثبوت الرؤية، وعادة ما تثبت الرؤية لدى الرجال وأما ما تفعله النساء والأطفال فلا يتجاوز التعبير عن الترقب والفرحة والمشاركة والاستعداد، ومتابعة استهلال الرجال بقصد الحصول على الخبر سريعاً لحظة مناداة المؤذن من فوق المنارات بثبوت الرؤية، وحين تثبت رؤية الهلال ويطمئن العلماء والأعيان إلى أن غرة الشهر الكريم ستكون غداً يبدأ "أبو طبيلة” عمله حالاً بالسعي بين أحياء الزبير ودهاليزها يرافقه أطفال الحارة قارعاً طبلته، ومعلناً أن غداً سيكون أول أيام الشهر المبارك، وحينها يبدأ الأهالي بالاستعداد للصوم بالاستحمام والذهاب إلى المسجد للصلاة، ولقاء الأقارب والجيران والأصدقاء وتبادل التهاني والتبريكات بقدوم الشهر الفضيل، وتتم بعض الاتفاقات بين الحاضرين خصوصاً الموسرين والمقتدرين منهم من أجل مساعدة الفقراء، وإقامة ولائم الإفطار العامة، وبعض القضايا التكافلية التي اعتادوا القيام بها في الشهر الفضيل، في ما تبدأ النسوة بتجهيز السحور وإتمام ما لم يستطعن إتمامه من مستلزمات المنزل الرمضانية، وتبادل التهاني مع جاراتهن وانتظار عودة الرجال من المساجد. التواصل والتزاور اعتاد معظم الزبيريين على أداء الصلوات في المساجد التي تكون جهزت لاستقبال أعداد كبيرة من المصلينن وقد دأب الأهالي على قراءة القرآن وختمه مرة أو أكثر في شهر رمضان المبارك، كما دأبوا على اصطحاب صغارهم معهم إلى المساجد لتعويدهم على الصلاة وتلاوة القرآن، وممارسة الواجبات العبادية الأخرى، ولعل الفترة بين صلاتي العصر والمغرب تشهد نشاطاً فوق العادة في الشهر الكريم في عموم مساجد الزبير القديمة، حيث يقوم العلماء والفقهاء ورجال الدين الزبيريين بإلقاء المحاضرات والدروس التوعوية العبادية مستغلين الحضور الكبير للناس وحضورهم اللافت واهتمامهم بالقضايا الدينية في هذا الشهر، واستعدادهم لتقبل العلوم واستيعابها بسبب الأجواء الإيمانية والروحانية التي ترافق الشهر الكريم، ويقال إن البطون الخاوية تساعد الناس أكثر في تقبل واستيعاب وحفظ العلوم من البطون الممتلئة. ويهتم الأهالي كثيراً بصلاة التراويح فتمتلئ المساجد بالمصلين، وتؤدي بعض النسوة صلاة التراويح بالمسجد خاصة العجائز والمسنات والصغيرات المرافقات لهن، في حين تنشغل ربات البيوت بمنازلهن بعد الفطور والقيام بالأعمال المنزلية التي تعقب الفطور كحفظ الأطعمة الزائدة وغسل الأواني وتجهيز الشاي والقهوة للرجال المتوقع عودتهم بعد الصلاة لاسيما ذوي الدواوين والمجالس. المائدة الزبيرية يبدأ الزبيريون إفطارهم يتناول التمر وشرب الماء، ثم القيام للصلاة ثم ينهضون من المائدة لأداء صلاة المغرب في المنزل أو في المسجد إن كان مجاوراً لمنازلهم، إذ يرون أن الجلوس على المائدة لمرة واحدة وملئ المعدة بالطعام على دفعة دون توقف بعد الصيام والامتناع عن الأكل طوال النهار يضر بصحة البدن، ويكون ذلك مدعاة للأمراض، فالمعدة بيت الداء، لذا فإن تناول التمر والماء ثم أداء الصلاة يهيئ المعدة جيداً لتناول الطعام الدسم، ولا تخلو المائدة الزبيرية من التشريب والهريس والهريساني وهو الهريس اللين، والدولمة، وهو نوع من المحاشي ذات الجذور التركية وخبز العروق، وهو كرات من الخبز التي تضاف إليها بعض المواد، أما الحلويات فلا تكاد تخرج عن أنواع ثلاثة، المحلبية، وهي نشا الرز يضاف له الحليب والسكر ويطبخ على النار بهدوء حتى ينضج، واللقيمات وهي كرات من العجين تقلى بالزيت حتى تحمر، ويضاف إليها محلول السكر وهي ما زالت معروفة بالخليج عامة إلى يومنا هذا، والتمر الذي لا تخلو منه المائدة والذي اشتهرت به البصرة وللزبارة بساتين وأملاك هناك، كما كان بعضهم يعمل في البساتين، والشوربة هي المشروب الساخن الأكثر شيوعاً بينما يعتبر اللبن المشروب البارد الأول. ويعتبر اهتمام الزبيريين بالإفطار بالغ الأهمية حيث تجتمع الأسرة على المائدة معاً، وربما حضر بعض الضيوف أو المدعوون فتكتمل الألفة، فرمضان كريم والناس تعشق أجواء الكرم وبذل الطعام هناك وأفضل الطعام ما اختلفت عليه الأيدي، وعادة ما تنتهي الجلسة بتناول الشاي والقهوة واللومين قبل أن يتفرق المجتمعون إلى الصلاة والزيارات العائلية والاجتماعية. التواصل والتكافل اعتادت غالبية الأسر إرسال صغارها إلى الأقارب أو الجيران يحملون معهم بعض الأطعمة قبل الفطور، ويتبادل الجيران والأقارب هذه الأطعمة التي تسمى طعمة كنوع من التواصل والتشارك، كما تتزاور النساء بعد الفطور فيتبادلن التبريكات والأحاديث العامة والخاصة أيضاً ومعظمها تدور حول رمضان، وكيف استقبلته الأسرة، وبعض الأحاديث التي اعتادت النساء تبادلها، ولا تخلو جلستهن من شرب الشاي واللومي والدارسين والزنجبيل، وأما الرجال فيذهبون إلى الدواوين والمجالس التي تنتشر في الأحياء لتقديم التهاني بعد الفطور مباشرة وتقل بعض الشيء، ثم تعاود مرة أخرى بعد صلاة العشاء. ومعظم العبارات التي يتبادلها المهنئون لا تخرج عن مبارك عليكم الشهر وعساكم من عواده، في ما تتكرر الإجابات مثل عساكم تعودونه والله يبارك لكم، ويتنقل الرجال من ديوان أو مجلس إلى آخر أفراداً ومجاميع طوال ليالي الشهر الكريم، وتقدم بعض الدواوين أنواعاً من الأكل تسمى التعتومة، وتتنوع الأحاديث حول الشهر الكريم أو أخبار الأهالي والأحداث والمناسبات، وقد تتشعب الأحاديث حول الأمور والظروف العامة والأخبار والحوادث التاريخية والجذور والأنساب وأخبار المناطق والديار الأخرى، خصوصاً الكويت ونجد والبصرة، وما يهتم الزبيريون له، في وقت لا تخلو الأحاديث من بعض الطرائف والمماحكات والقصص الضاحكة وحكايات السمر، وقد عرف عن الزبارة حبهم للضحك والمزاح وتبادل النكتة والتعلوقة. ويقوم الكثير من الأهالي الميسورين بمساعدة الفقراء والمحتاجين من أهالي المحلة في الشهر الكريم، وتتعدد طرق المساعدة إما بإيصال بعض المو اد الغذائية إلى منازلهم قبل رمضان أو في أوله، وإما بإيصال بعض الأطعمة إلى بيوتهم قبل الفطور، وإما بإرسال الطعام إلى المساجد وعمل الموائد العامة التي يشترك بها العديد من الميسورين ويحضرها الكثير من الفقراء والمعوزين والسابلة، وإما بدعوة الأقارب والجيران الفقراء إلى المنازل لتناول الفطور سوياً مع أصحاب المنزل على مائدة واحدة، في حين يخرج بعض الأغنياء الصدقات ويتم توزيعها على فقراء المحلة ومحتاجيها ويقوم بعضهم بشراء كسوة العيد لكبار السن والأيتام وبعض المحتاجين من الأقارب والجيران. *كاتب وباحث كويتي القرقيعان وليلة الخامس عشر من رمضان ليلة مشهودة لدى عموم الزبيريين، حيث يشتري أرباب المنازل بعض المكسرات التي عادة ما تكون {نقل} أو كما يسمى في الزبير «باصورق} وهناك البندق والحمص واللوز ودق السبال والزبيب والغند، وبعض الأنواع الأخرى, فيوزعها على أطفاله وأطفال أخوته وبعض الأقارب، وتقوم ربة المنزل بتوزيع ما بقي من القرقيعان على بعض الأطفال الذين يطرقون الأبواب طلباً له على العادة المتداولة هناك، وعادة ما يردد الأطفال بعض الأناشيد التي اعتادوا على ترديدها كل عام مثل {قرقيعان قرقيعان كل سنة وكل عام انطونا الله ينطيكم بيت مكة يوديكم قرقيعان ببيتكم الله يخلي وليدكم قرقيعان بسكتكم الله يخلي بنيتكم». العشر الأواخر تخلو الدواوين والمجالس في العشر الأواخر إلا ما ندر، حيث يهرع الأهالي إلى المساجد من أجل التفرغ للعبادات والصلوات، فتمتلئ المساجد تماماً، وتوضع الستائر والحواجز لتجهيز مكان للنساء في الأماكن الخلفية، ويقوم الرجال في أيام رمضان الأخيرة بتجهيز كسوة العيد للزوجة والأولاد والوالدين إن وجدان وغالباً ما تكون كسوة العيد نوعاً من التجديد السنوي للملابس عند الأسرة، فيتم خلالها شراء كل حاجة الرجل من ثوب وكوفية وشماغ وربما الحذاء أيضاً وملابس الأطفال والنساء كذلك، كما يقوم رب الأسرة بإخراج فطرة الصيام أو تزكيتها وهي في العادة مقادير معينة من غالب قوت البلد كالطحين أو الرز أو التمر، أو قيمة المقادير نقداً وتوزع على الفقراء والمحتاجين ليلة العيد، وتقوم النسوة بتجهيز الديوانية أو المجلس وفرشها وتنظيفها استعداداً للعيدن وحمس حب القهوة ودقه بالنجر، كما تقوم ربة المنزل بعمل الحناء وتخضيب يديها وأيدي صغيراتها كنوع من التجميل للعيد، وتشهد الأسواق حركة ونشاطاً مشهودين في الأيام الأخيرة للشهر المبارك حيث يعمل الخياطون والخرازون والحلاقون بكل همة ونشاط. أبو طبيلة وأبو طبيلة أو كما يسمى في بعض المناطق العربية المسحراتي شخصية مهمة وطريفة أيضاً ارتبط عملها بشهر رمضان، وقد اعتاد الزبيريون على سماع نقراته على الطبلة ذات الوجهين التي يربطها في عنقه ويدور في الحي، فريجاً بعد آخر، منادياً بصوت جهوري بكلمات تشبه الغناء أو الجمل الملحنة ليوقظ الناس قبل السحور ويساعد النساء على النهوض مبكراً وتجهيز السحور لأزواجهن والعائلة، وربما تبعه بعض الأطفال ورددوا معه بعض ما اعتاد على ترديده واستطاع الأطفال حفظه بسبب التكرار، ويؤدي أبو طبيلة عمله بهمة ونشاط بالغين، وعادة ما يكون تطوعاً بلا شرط مع أحد، لكن أهل الحي يعطونه بعض النقود في آخر الشهر الكريم أو بعض الأطعمة أثناء مروره بالمنازل، وتختلف العطايا بحسب الحالة المادية لأهل المنزل وبحسب كرمهم أو بخلهم، لكن أبو طبيلة يقبل كل العطايا بسرور ورضا، ولعل من نافل القول إن محلات الزبير أربعة هي الرشيدية والكوت والشمال والزهيرية وربما وجد أكثر من أبو طبيلة في المحلة الواحدة.
توابل
رمضان في الزبير
24-06-2015