منظومة الحكم الديمقراطي

Ad

الدستور هو الوثيقة التي صاغتها الإرادة الشعبية الممثلة في المجلس التأسيسي المنتخب، وصدّق عليها الأمير وأصدرها عهداً وميثاقاً بين الحاكم والمحكومين، مبيناً نظام الحكم في الكويت، مقرراً مسؤولية القائمين بالعمل العام أمام ممثلي الأمة، في مجلسهم المنتخب بإرادة الجماهير، مبلوراً لطاقاتها وملكاتها، واضعاً الضوابط والقيود التي تحول بين السلطات العامة واقتحام الحدود التي تفصل بينها، في حكم ديمقراطي يقوم نظامه على أساس مبدأ الفصل بين السلطات، وهو جوهر النظام الديمقراطي، لأنه يمنع الاستبداد بأي شكل من أشكاله، لأن كل سلطة من السلطات الثلاث التي خرجت من رحم هذا الدستور، تحد من السلطة الأخرى، فالسلطتان التنفيذية والقضائية تحدان من السلطة الأخرى، وفقاً لمقولة الفقيه مونتسكيو الذي كان أول من نادى بهذا المبدأ.

إلا أن الدستور لم يقف عند تحديد اختصاص كل سلطة من هذه السلطات، إنما حرص أيضاً على توزيع الاختصاص في نطاق السلطة الواحدة، ليصبح هذا التحديد من مكونات هذا المبدأ، ومن لوازمه التي تمنع كذلك الاستبداد داخل السلطة الواحدة.

المؤسسات العامة جزء من المنظومة

وبذلك أصبحت المؤسسات العامة، وهي أحد مكونات السلطة التنفيذية، جزءاً من منظومة الحكم الديمقراطي عندما حرص الدستور على أن يقرر استقلالها في المادة (133)، مثلما حرص على أن يقرر استقلال ديوان المحاسبة في المادة (151)، واعتبر هذا الاستقلال في الحالتين مسؤولية السلطة التشريعية.

فنصت المادة (133) من الدستور على أن "ينظم القانون المؤسسات العامة، بما يكفل لها الاستقلال في ظل توجيه الدولة ورقابتها"، وبهذا يكون الدستور قد كفل استقلال المؤسسات العامة وجعل هذا الاستقلال عاصماً من التدخل في أعمالها أو التأثير في مجرياتها، لأن هذا التدخل من شأنه أن يعرقلها أو يعوقها عن أداء مهامها التي لم تنشأ إلا لأدائها استقلالاً عن الجهاز الحكومي المركزي.

توجيه الدولة ورقابتها

ولكن هذا الاستقلال، المقرر بنص الدستور، للمؤسسات العامة والذي ألزم به السلطة التشريعية في تنظيمها للمؤسسات العامة قد قرنه الدستور بأن يكون تحت مظلة "توجيه الدولة ورقابتها".

وهو توجيه ورقابة يختلفان عن أنماط وأساليب وآليات وصلاحيات كل وزير في الإشراف على شؤون وزارته، وهو الإشراف الذي يمارس بموجب المادة (130) من الدستور في ما تنص عليه من أن "يتولى كل وزير الإشراف على شؤون وزارته، ويقوم بتنفيذ السياسة العامة للحكومة فيها، كما يرسم اتجاهات الوزارة ويشرف على تنفيذها".

وقد كان المشرع حريصاً على تجسيد هذا الاختلاف في تنظيمه للمؤسسات العامة بإنشاء مجالس إدارة لها، تخول جميع الصلاحيات لتحقيق أغراضها، وعلى الأخص رسم السياسات العامة للمؤسسة والإشراف على تنفيذها، ووضع الخطط والبرامج لتنفيذ هذه السياسات واقتراح مشروعات القوانين والمراسيم المتعلقة بتحقيق أغراضها، وإقرار مشاريع ميزانياتها وحساباتها الختامية، ووضع اللوائح المالية والإدارية والفنية لها. ولذلك يخرج كل ما عهدت به قوانين إنشاء المؤسسات والهيئات العامة من صلاحيات إلى مجالس إداراتها، من الصلاحيات والاختصاصات التي يمارسها الوزير في شؤون وزارته.

ولا يمارس الوزير من الصلاحيات والاختصاصات، بالنسبة إلى المؤسسات أو الهيئات العامة، إلا ما نص عليه قانون إنشائها وتنظيمها، وهو ما قطع به المشرع ذاته في القانون رقم 116 لسنة 1992 في شأن التنظيم الإداري وتحديد الاختصاصات والتفويض فيها، فيما نصت عليه مادته الثانية من أنه:

 "للوزير المختص، في سبيل مباشرة اختصاصه في الإشراف على المؤسسات العامة أو الهيئات العامة والإدارات المستقلة التابعة له أو الملحقة به أو بوزارته، إصدار التوجيهات لها لتنفيذ السياسة العامة للدولة وللخطة الإنمائية، ومتابعة سير العمل بها لضمان تحقيقها للأغراض التي أنشئت من أجلها، والتقيد بأحكام القوانين واللوائح وقرارات مجلس الوزراء، بالإضافة إلى الاختصاصات الأخرى التي ينص عليها القانون أو اللوائح".

لا اختصاص للوزير دون نص

لذلك، فإن ما أسنده رأي قانوني، تناقلته الصحف حول سلطة الوزير، في التعقيب على جميع أعمال مرؤوسيه وإلغاء أو تعديل أي قرار يصدر ممن هم أدنى منه في مدارج السلم الوظيفي، بما له من سلطة الرقابة والمتابعة والإشراف على أعمال مرؤوسيه، والتي تخوله مكنة سحب قراراتهم أو تعديلها، وهي سلطة يمارسها ولو لم يكن هناك نص يقضي بذلك، إلا إذا نص القانون واللوائح على خلاف ذلك، فهو رأي، مع كل التقدير لمن ارتآه، قد غابت عنه الفريضة الدستورية، وهي استقلال المؤسسات العامة الذي ألزم الدستور المشرع بكفالته في تنظيمه لهذه المؤسسات والهيئات العامة، فضلاً عن مخالفة هذا الرأي لإجماع الفقه وما استقر عليه القضاء الإداري من أن تحديد الاختصاص- في نطاق القانون العام- هو كأصل عام من عمل المشرع أو تفويض منه. وأساس ذلك ما أجمع عليه الفقهاء من أن الغاية من تحديد قواعد الاختصاص هي المصلحة العامة، فلا ينظر فيها إلى مصلحة الفرد أو الهيئة التي أوكل إليها المشرع ممارسة اختصاص ما، على عكس قواعد الأهلية في القانون الخاص التي يراعي المشرع في تحديدها أصلا مصلحة الفرد، وهذا هو الذي يميز قواعد الاختصاص عن قواعد الأهلية في القانون الخاص

ويترتب على ذلك عدد من النتائج منها:

1- أن القاضي إذا طعن أمامه بإلغاء القرار فإنه يملك أن يتصدى لعيب الاختصاص من تلقاء نفسه، ولو لم يُثِره الطاعن، وعليه البحث في الاختصاص والفصل فيه، قبل البحث في موضوع القرار أو سببه.

2 - أن الاستعجال لا يشفع للإدارة مخالفة قواعد الاختصاص.

3 - أنه إذا وُلِد القرار معيباً بعدم الاختصاص فإنه لا يمكن تصحيحه بإجراء لاحق.

4- أنه لا يمكن الاتفاق على تعديل قواعد الاختصاص.

(يراجع في ذلك القضاء الإداري - الدكتور سليمان الطماوي ط1986 ـ ص 695)

ولأن قواعد الاختصاص في القانون العام من النظام العام فقد غدت قواعده آمرة وملزمة، وعلى الموظف أن يلتزم حدود الاختصاص كما رسمها المشرع صراحة وضمناً، وقد استقر الفقه والقضاء الإداري على وجوب التزام الموظف بالاختصاص الذي عهد به المشرع إليه، ولو كان ضمنياً بأن كان يتفق وواجبات وظيفته أو كان مكملاً لها (المرجع السابق ص695-697).

كما قضى مجلس الدولة الفرنسي بأن هذه القواعد ليست مقررة لمصلحة الإدارة، فتتنازل عنها كلما شاءت، وإنما شرعت لتضع قواعد قانونية ملزمة للإدارة تحقيقاً للمصلحة العامة (حكم المجلس الصادر في 11 يناير سنة 1935 في قضية Gras سنة 1935 القسم الثالث ص 102 وحكمه الصادر في 9 ديسمبر سنة 1949 في قضية chain. ولهذا استقر فقه القضاء الإداري على أنه فيما يتعلق بركني الشكل والاختصاص في العمل الإداري فإنه لا حرية للإدارة بالنسبة إليهما، بل على رجل الإدارة باستمرار أن يفرغ إرادته في الشكل الذي يحدده القانون، وأن يحترم قواعد الاختصاص بحيث يكون عمله باطلاً أو معدوماً إذا ما خرج على القواعد السابقة بعكس ركن السبب والحل في العمل الإداري، واللذين تتجسد فيهما معالم السلطة التقديرية (النظرية العامة للقرارات الإدارية د. سليمان الطماوي دراسة مقارنة الطبعة الرابعة 1976 ص 53).

وكما قال الإمام الأعظم أبو حنيفة "علمنا هذا رأي فمن جاءنا بخير منه قبلناه". ولنا وللرأي الآخر في هذا الاجتهاد أجران لمن أصاب منا، وأجر واحد لمن جانبه الصواب.