المشروعات التي تقدمها الدولة كحلول لمعالجة العجز معظمها مفككة، ولا تسير وفق خطة واحدة وواضحة، فمثلا إعداد البديل الاستراتيجي للرواتب يأتي في إطار منفصل عن طرح المشاريع الصغيرة والمتوسطة.

Ad

واضح من الخطاب الحكومي الرسمي وغير الرسمي أن جل التركيز في ملف الإصلاح الاقتصادي يرتكز على إعادة هيكلة الدعم وتسعير الخدمات والسلع دون الالتفات إلى إصلاح الاقتصاد، واعتبار ملف الدعم «كعود من حزمة» إجراءات تهدف إلى عمل إصلاح اقتصادي حقيقي، وليس مجرد ردود فعل على الانخفاض السريع في أسعار النفط.

فمنذ تراجع أسعار النفط في يونيو 2014، وتنامي مخاطر العجز المالي في الميزانية، اتجهت الحكومة إلى اتخاذ عدد من الإجراءات الهادفة لكبح هذا العجز، ابتداء من إعادة تسعير الديزل مطلع العام الماضي، مرورا برسالة وزارة المالية إلى مؤسسات الدولة بضرورة ألا يتجاوز سقف إنفاقها في مشروع ميزانية السنة المالية 2016-2017 نظيره في السنة الحالية، وصولا إلى رفع طفيف لأسعار الايجارات على أملاك الدولة، وإعداد أول ميزانية منخفضة عن سابقاتها منذ نحو 10 سنوات، واليوم يتصاعد الحديث عن ملف الدعم كله بعد دراسة من «إرنست آند يونغ».

سياسات قاصرة

ورغم وجاهة بعض هذه الإجراءات والاقتراحات فإنها تظل قاصرة، لأنها تتعامل مع الاقتصاد الكويتي وفق مبدأ بسيط، وهو الإيرادات والمصروفات، ولا تشكل أكثر من نقطة صغيرة في دائرة الإصلاح الاقتصادي، في حين أنها تغفل عن معالجة العديد من الاختلالات كسوق العمل أو شح الإيرادات غير النفطية أو ضعف بيئة الاستثمار أو دور الدولة في حجم الاقتصاد، فضلا عن رفع نسبة القطاع الخاص من الناتج المحلي الإجمالي، وتغيير فلسفة الإنفاق في الميزانية من الاستهلاكي إلى الاستثماري، إلى جانب استقطاب الأموال الأجنبية والمحلية لتكون لدينا بيئة استثمار جاذبة تمكن الدولة من جباية الضريبة، فضلا عن خلق فرص العمل للشباب.

معالجة الهدر

التعامل مع العجز في الميزانية ليس بالضرورة أن يكون ماليا بحتا، بل يرتبط بعناصر مهمة في الإدارة العامة للدولة، التي فشلت في أكثر من مناسبة في أن تحول خططها إلى واقع عملي، لذلك يمكن القول إن الفشل في إدارة ملف الإصلاح الاقتصادي ستكون له آثار سلبية على مستقبل البلد أكثر من الآثار السلبية المتوقعة لملف العجز، فالإصلاح المالي جزء من عملية إصلاح إداري واقتصادي أكبر، وهنا يمكن التساؤل عن آليات معالجة الهدر المالي في القطاع العام، لنعرف إن كانت الإيرادات المحققة من رفع أسعار الكهرباء والبنزين ستصب في اتجاه خدمة أحد أهداف الاقتصاد من حيث تنمية الإيرادات غير النفطية، أم انها ستتسرب في اتجاه الهدر المالي.

بالطبع تمويل العجز المالي في دولة كالكويت سيمر بدرجة عالية من الصعوبات، أبرزها أن المشروعات التي تقدمها الدولة كحلول لمعالجة العجز معظمها مفككة ولا تسير وفق خطة واحدة وواضحة، فمثلا إعداد البديل الاستراتيجي للرواتب يأتي في إطار منفصل عن طرح المشاريع الصغيرة والمتوسطة رغم أن الاثنين يستهدفان إصلاح سوق العمل، ووجود مشروعات تجبي الأموال عبر إعادة تسعير الخدمات والسلع بلا ضمان للحد من آلية الهدر المالي، إلى جانب وجود إنفاق عام متضخم في اتجاه المشاريع والمناقصات العامة بلا انعكاس واضح على الإيرادات أو سوق العمل!

اقتصاد بديل

لابد أن يكون لدى متخذ القرار قناعة بأن تنويع الاقتصاد وفتح قنوات استثمار أكثر أولوية من برنامج الدعم نفسه... لذلك يجب العمل على صياغة برنامج واضح للضريبة على الشركات، مع بذل الجهود الخاصة المفروض بذلها لجذب استثمارات أجنبية في الكويت، لتعزيز إيرادات الضرائب جنبا الى جنب مع الشركات المحلية، مع الأخذ بعين الاعتبار إصلاح سوق العمل الذي يمثل التحدي الأكبر خلال السنوات القادمة، فضلاً عن إصدار قوانين تسهل إطلاق فرص عمل جديدة في القطاع الخاص، وتفعيل المشروعات الصغيرة وإيجاد فرص استثمارية كتشغيل ميناء مبارك ومدينة الحرير، لتوفير فرص عمل في القطاعات الخدمية واللوجستية والتطوير العقاري والاستثمار الصناعي والمالي والسياحي وغيرها، وفقاً لقواعد تنافسية تكون الدولة فيها منظمة ومشرفة على السوق، وجابية للضرائب من الشركات المستفيدة من هذا السوق.

العلاج بالخارج

لكن التوقعات العالية دائما تصطدم بواقع الحال، فعندما اتجهت الدولة إلى اتخاذ إجراءات من شأنها الحد من التلاعب بالعلاج في الخارج، عبر التشدد في منح الموافقات وتخفيض مخصصات المرافقين، كانت النتيجة مفاجأة وعكسية، إذ تضاعفت أرقام العلاج بالخارج لغير المستحقين، بمعنى أن أداء الحكومة قبل إصلاح العلاج بالخارج كان أفضل بكثير منه بعد الإصلاح... وهذه حالة تكاد تتفرد بها الكويت بين كل دول العالم، والخوف أن يتسع نموذج العلاج في الخارج إلى مختلف القطاعات الخاصة بالهدر أو الفساد المالي.

هرم الثراء

بشكل عام، هناك صعوبة في إقناع الشارع بتجربة رفع أسعار الوقود، التي تمس السواد الأعظم من المستهلكين، قبل التدرج في إطلاق اعتماد سياسات ضريبية تمول الميزانية على الشركات العائلية، ثم المساهمة، والأكثر دخلا، أو حتى فرض ضرائب عالية على بعض السلع غير الأساسية كالسيارات الفارهة وغيرها، إضافة إلى الهدر في المناقصات الحكومية ومصروفات القياديين ومؤسسات الدولة، فعملية معالجة الانفلات المالي في ملف الدعم تستوجب اتخاذ إجراءات عادلة ومتدرجة من أعلى هرم الثراء إلى قاعدته وليس العكس... فكم من دولة أدت إجراءات تحرير الأسعار فيها إلى أزمات سياسية واجتماعية لأنها لم تكن عادلة أو متدرجة.

يجب أن نعلم أن نحو 60 إلى 65 في المئة من دول العالم لديها عجز في ميزانياتها، والتحدي ليس العجز ذاته، بل كيفية إدارة ملف العجز على مختلف الآماد «القصير - المتوسط - الطويل»، الأمر الذي يجعل خلق اقتصاد بديل أساسه إصلاح الإدارة أمرا مطلوبا، لأنه أكثر ديمومة وفائدة، مع الاعتراف بأن إخفاقات الاقتصاد الكويتي أعمق وأشمل من مجرد ارتفاع أسعار النفط أو انخفاضها.