تُكثر الحكومة هذه الأيام من الحديث حول ما تُسميه سياسة "الترشيد" لمعالجة عجز الميزانية العامة، وهي سياسة مشابهة، مثلما ذكرنا من قبل، لسياسة "التقشف الاقتصادي" في الدول الرأسمالية (أميركا وأوروبا)، وهي تتجاهل الأسباب الرئيسة التي أدت إلى عجز فعلي في الميزانية العامة للدولة، وتُحمّل تبعاته للفئات المتوسطة والطبقة الفقيرة، وهو ما رفضته ومازالت ترفضه الشعوب هناك، مثلما حصل في اليونان وإسبانيا وإيرلندا وأخيراً في بريطانيا، حيث انتخب "جيرمي كوربين" زعيماً لحزب العمال البريطاني بفارق كبير في الأصوات عن منافسيه، بعد أن رفع شعار معارضة "التقشف الاقتصادي" والخصخصة عموماً، وبالذات خصخصة القطارات.
تصريحات الحكومة عن "ضرورة ترشيد الإنفاق العام" تستند إلى "روشتة" صندوق النقد الدولي الشهيرة التي كانت نتائجها كارثية في دول كثيرة مثل البرازيل واليونان وإسبانيا والبرتغال وإيرلندا وتونس ومصر، والمفارقة أن التصريحات الحكومية تأتي في الوقت الذي تعترف فيه الحكومة ذاتها، وبشكل علني، بأن الفساد والرشوة قد استشريا في أجهزة الدولة ومؤسساتها. ليس ذلك فحسب، بل إنها تأتي في الوقت الذي تَعقد فيه الحكومة ذاتها صفقات تسلُّح ضخمة مثل صفقة الطائرات الحربية "يوروفايتر" التي تبلغ قيمتها 9 مليارات دولار أميركي، وهو مبلغ فلكي يعادل ما سينفق على الدعم الاجتماعي الضروري لسنوات قادمة! وهذا معناه أن أي مبلغ سيقتطع من رواتب صغار الموظفين وأصحاب الدخول المتوسطة تحت ذريعة ما يُسمىّ الترشيد سيلتهمه الفساد المؤسسي وصفقات التسلح الضخمة.وعلى ما يبدو فإن صفقات التسلّح الفلكية في المنطقة لن تتوقف، فمصانع الأسلحة في الغرب تمر بأزمة مالية طاحنة منذ عام 2008، والحكومات التي تُمثلها مع سماسرتها ووكلائها المحليين يضغطون على حكومات دولنا بشتى الطرق لتصريف بضائعها تحت ذرائع وحجج متعددة تستخدم عادة من أجل تسويقها على الرأي العام، فقد سبق وذكرت صحيفة "الفايننشال تايمز" في سبتمبر 2010، أن "123 مليار دولار، أي 12% من الدخل النفطي للسعودية والإمارات وعمان والكويت، سيذهب حتى 2014 إلى مصانع الأسلحة الأميركية" (انتهى الاقتباس)!أما بالنسبة للإنفاق الداخلي، فبالإضافة إلى عمولات صفقات المشاريع الضخمة التي تذهب إلى عدد محدود من الوكلاء المحليين لمجرد توقيع عقد الصفقة، بالرغم من أن الميزانية العامة أولى بها، فإن أغلب الأجهزة الحكومية تشغل عقارات خاصة مؤجرة منذ عقود طويلة في الوقت الذي تمنح فيه أراضي الدولة وأملاكها بأسعار زهيدة ولمدد زمنية طويلة تصل إلى نصف قرن أو أكثر (الواجهة البحرية الممتدة على طول الساحل مثالاً)، وبعضها يُستخدم في غير أغراضه، فعن أي ترشيد تتحدث الحكومة؟ وعن أي ترشيد تتحدث الحكومة وهي عاجزة عن استرداد أموال المتقاعدين التي تم نهبها في وضح النهار، كما أنها غير قادرة على تقليص حجم جهازها الإداري الضخم والمترهل، بل وعاجزة عن تخفيض، لم نقل إلغاء، المزايا والمكافآت والبدلات التي تُمنحها من دون مبرر في أحايين كثيرة لكبار المسؤولين في الدولة؟ أليس الأولى أن تبدأ الحكومة بنفسها قبل عملية البحث المضني في جيوب البسطاء ومتوسطى الدخل عن مبالغ بسيطة سيبتلعها الفساد المؤسسي وصفقات الأسلحة الضخمة وغلاء المعيشة؟وكما قلنا من قبل، في ظل غياب المشاركة الشعبية الواسعة والفاعلة في صياغة السياسات العامة واتخاذ القرارات، وفي ظل التوزيع غير العادل للثروة الوطنية فإن أي إيرادات جديدة ستحصلها الحكومة تحت ذريعة "ترشيد الإنفاق"، ستذهب، مثلما ذهبت الفوائض المالية الضخمة إلى القِلة القليلة، ولن يستفيد منها معظم المواطنين.
مقالات
هل أتاك حديث الحكومة عن «الترشيد»؟
28-09-2015