ترانيم أعرابي: مفاهيم مقلوبة
التفكير أحياناً في ما يحيط بنا وما يدور حولنا بحد ذاته أمر إيجابي، خصوصاً إن كان التفكير بمنظور مغاير، من الجميل أن نحاول الخروج من دائرة الحياة التي نعيشها والنظر إلى ما يدور حولنا من خارج المربع الذي نعيش فيه، وعندها ستتضح للكثير منا أمور كان يجهلها أو تتضح له صورة كان يراها مقلوبة.العرب اتصفوا منذ القدم بأمرين أساسيين هما الكرم والشجاعة، فالعربي الجاهلي، إن صحت التسمية، مهما كان فقيراً كان الجود صاحبه والكرم رفيقه، ولذلك سمعنا عن قصص كثيرة ورائعة حول كرم حاتم الطائي مثلاً، وكيف أنه استقبل رسول أحد الملوك وكان هذا الرسول يريد أن يشتري فرس حاتم، ومن عادة العرب ألا تسأل ضيفها عما يريد إلا بعد ضيافته وإكرامه أي بعد 3 أيام، فتش حاتم في بيته فلم يجد شيئاً يطعم به ضيفه، فما كان منه دون تفكير إلا أن ذبح فرسه التي هي أغلى ما عنده وقدمها إلى ضيفه، وعندما حان وقت السؤال ذكر الضيف هدفه من الزيارة وأنه يريد الفرس لسيده، فتبسم حاتم، وقال: الفرس كانت عشاءك، ولو أبلغتني قبل ذبحها لكانت من نصيبك.
وسوف أضرب مثالاً آخر حول كرم العربي أو البدوي، إن صحت التسمية، فإلى وقت قريب كان هناك عُرْف في البادية كما ذكر ذلك الشيخ علي الطنطاوي، وهذا العرف هو أنه إذا قام الضيف من مائدة مضيفه يمسح يديه في باب الخيمة وأكثر باب عليه طبعات الأيادي يكون صاحبه من أكثر الرجال كرماً، ولعل اليوم الكثير منا يرى هذه العادة نوعاً من عدم النظافة أو الفقر! هناك فرق شاسع بين الكرم العربي وما يحدث اليوم تحت مسمى الكرم، نسمع كثيراً عن مائدة فلان التي قام الضيوف عنها ولم ينتهوا من الأكل، بل إن البعض يتفاخر بأن جميع الضيوف أكلوا إلى حد الشبع والمائدة على حالها لم تتغير!، انقلبت المفاهيم اليوم وصار الإسراف كرماً والتفاخر ضيافة، وصرنا نسمع الكثير من القصص حول الموائد التي ترمى في القمامة، أجلكم الله، ولو جُمِعت هذه الأطعمة لأطعمتْ قرى في إفريقيا. وقد يتكلف البعض اليوم فوق طاقته ويهدر أموالاً هو عائلته أولى بها من أجل بضع كلمات قد يقولها أحدهم مجاملة. الإسراف بلغ اليوم مبلغاً كبيراً، والكرم هو أن تعطي من يحتاج، لا أن تتفاخر بما تعطي، والعرب في السابق عندما كانت تكرم الضيف، لم يكن المضيف والضيف ينظر إلى نوع الطعام أو شكله، بل كان ينظر إلى فعل صاحب الطعام، والقصص في تراثنا وتاريخنا شاهدة على ذلك.الكرم، كما أفهمه أنا، أن أبذل ما أستطيع بذله في سبيل إسعاد غيري، وقمة الكرم أن أعطي غيري ما في يدي وفق استطاعتي، أي أنني عندما أكرم صاحبي وضيفي لا يشترط أن أشتري له أفضل الأطعمة وأجودها، إلا إن كنت قادراً على ذلك، ولكن أن يزورني شخص واحد فأذبح له خروفاً كاملاً يرمى نصفه في القمامة، أجلكم الله، فهذا والله ليس كرماً، بل إسراف منهي عنه. قد يقول البعض: اليوم توجد هناك لجان وهيئات خيرية تأخذ تلك الأطعمة وتعطيها لمن يستحقها، وهل تعتبر فضلاتنا صدقة جيدة؟ هذا التساؤل أترك لكم إجابته، نعم علينا نشر ثقافة الكرم في المجتمع، لكن ألا تلاحظون أن الكثير منا صار لا يزور البعض بسبب أنه "يتكلف"؟!شوارد:أخرج أحمد والحاكم عن سلمان الفارسي قال: (نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتكلف للضيف).