«الرئيس»!
في مثل هذا التوقيت من العام الماضي، كتبت أشيد بفيلم «الصياد السيئ» (الإمارات/ بلجيكا) للمخرج سهيم عمر خليفة، الذي نال جائزة خاصة من لجنة تحكيم مسابقة «المُهر القصير» في الدورة الحادية عشرة لمهرجان دبي السينمائي الدولي.يحكي الفيلم في 14 دقيقة ممتعة قصة الشاب الكردي «باهوز»، الذي اعتاد صيد الأرانب في براري كردستان العراق، لكنه يسمع ذات يوم صرخات فتاة كردية حسناء تتعرض للاغتصاب، وينجح في إنقاذها بعد أن يهدد «المُغتصب» ببندقيته، ويصرفها في سلام بعد وعد مؤكد منه بأن يكتم سرها، وألا يفضح أمرها أمام أهلها وعشيرتها. لكنه يفاجأ بها وقد اتهمته بأنه مغتصبها كي تتزوجه، والمفاجأة الأكبر أنه وافق على التهمة!
هذا العام، ومع ختام الدورة الثانية عشرة لمهرجان دبي السينمائي، أعلن عن فوز فيلم «الرئيس» (الإمارات العربية المتحدة، العراق وقطر/ 2015) بجائزة «أفضل فيلم» في مسابقة «المهر الخليجي القصير». كانت الجائزة مستحقة وجاءت محل رضاء الكثيرين ممن أتاحت لهم الظروف مشاهدة الفيلم، الذي شهد مهرجان دبي عرضه العالمي الأول، وجرت حوادثه كفيلم العام الماضي، في إقليم كردستان العراق، غير أن مخرجه رزكار حسين يتطرق إلى قضية مختلفة تتعلق بآلية صناعة «الديكتاتور». ورغم أهمية وحيوية القضية فإنه عالجها من منظور غاية في الطرافة والبساطة والذكاء، عبر الصبي «هسو»، الذي تشي ملامحه بالغباء ولا تخلو من البلاهة والسذاجة، ومن ثم يُصبح مثار سخرية وتندر رفاقه، الذين يقصونه عن مشاركتهم لعبة كرة القدم، ويختارونه لأداء مهام متواضعة تليق بقدراته المحدودة، وإمكاناته الفقيرة، كأن يقوم – مثلاً – بتحصيل بعض المال من الأطفال الذين يسبحون في النهر، ويقبع في الظل قانعاً بحاله حتى اللحظة التي يتفق فيها الرفاق على «لعبة» تمنح الفائز حق «الزعامة». ويُشارك «الأبله» رفاقه من باب «كمالة العدد» ليس أكثر، لكن القدر يلعب لعبته، ويقف بجانبه، ووسط دهشة الجميع يفوز، ويُصبح «الرئيس»! في هذه اللحظة يرى «الأبله» أن الفرصة مهيأة للتخلص من عُقده القديمة، وعلى رأسها الدونية والاضطهاد، ويُمارس سلطاته في ظل حالة من الإذعان، والطاعة، حسب قانون «اللعبة»، وعندما يستشعر تراجعاً في الإيرادات (الموازنة) يلجأ إلى فرض رسوم أكبر (ضرائب) على السابحين (المواطنين) في النهر، ولا يتورع عن تحصيل مبالغ نقدية من رفاقه بحجة سد الفجوة. ولا يكتفي بأن يكون «الرئيس» وإنما يتحول إلى مستبد وطاغية يعاني الرفاق سطوته وقسوته، ويُدرك بدوره أن ثمة خطراً ما يحيق به فيقرر، في خطوة مباغتة، شراء بندقية (أول صفقة سلاح) للدفاع عن سلامته الشخصية، ويبدأ في التنصت على الجميع، ويُجند المقربين، والمنافقين، للتجسس على الباقين (أول جهاز استخبارات). ومع تفاقم شكوكه، وتزايد هواجسه، بأن المؤامرة وشيكة، والانقلاب آت، نتيجة غضب بعض الأصوات (المعارضة)، يتعمد إقصاء بعض الرفاق، ولا يُفارق قطعة سلاحه، التي يراها أمله الأخير في الوجود، وفي الحكم. لكن الضربة (الخيانة) تأتيه، كما جرت العادة، من أقرب خلصائه، الذي يجرده من سلاحه، ويهرب، تاركاً إياه فريسة لانتقام المنفيين، وثأر الغاضبين (الثوار)!معالجة أخاذة لفكرة جادة لم يستغرق طرحها على الشاشة سوى عشرين دقيقة، هي مدة عرض الفيلم، الذي اعتمد على حوار ناطق بالكردية مع ترجمة إلى الإنكليزية، لكنها كانت كافية لصنع فيلم رائع لا يعرف الثرثرة لكنه يعرف كيف يفضح صورة «الرئيس الديكتاتور»، ويرصد قصة الاستبداد، الذي يُفضي، في العادة، إلى ثورة، وهي الرسالة التي نجح المخرج رزكار حسين في توصيلها بطريقة رائعة، ربما لأنه ابن محافظة السليمانية الواقعة في الشمال الشرقي للعراق، وعرف كيف يكون حكم «الديكتاتور»، ومن المؤكد أنه اكتوى بنار نظامه، وهو ما دعاه للسفر إلى هولندا، حيث درس السينما، وبعدها أنجز «بايسيكل»، الذي فاز بجائزتي أفضل فيلم قصير، وأفضل سيناريو، في «مهرجان الخليج السينمائي» عام 2012.في معرض إشادتي بفيلم «الصياد السيئ» قلت إن جدية الفكرة، وبساطة التناول، هما السبيل إلى صنع فيلم جيد تتوافر فيه مقومات التسلية، ويُحقق مواصفات الإبداع، وهو ما ينطبق أيضاً على فيلم «الرئيس»، الذي كتب له السيناريو وأخرجه رزكار حسين، فإضافة إلى الرسالة الإنسانية، التي تبناها، والدعوة النبيلة، التي حذر فيها من مغبة الوقوع في براثن «الرئيس الثعبان» أو «الرئيس الحرباء»، والاختزال الجميل للمعنى، والابتعاد عن الخطابة والمباشرة، والمعالجة المدرسية البليدة، توافرت للفيلم، وللمخرج ذي الأصول الكردية، عناصر فنية مُميزة، كالتصوير (هاوكار فرهاد) والمونتاج (فكري بروشي) والموسيقى (روزبه مصلح). لكن يبقى أداء الصبي (إدريس محمد) كأبرز ملمح في الفيلم، بتلقائيته، وواقعيته، وملامحه التي جسدت معاني العته والسذاجة والبلاهة، وعلى غير توقع انقلب إلى ذئب ضار لم يكن متعطشاً للدماء، كما ألفناه، لكنه كان متعطشاً للسلطة، وتوابعها: القهر والنفي والاستبداد والطغيان.. وهذا أخطر كثيراً في رأيي!