وسط كل ما نتابعه من أنباء المعارك التي تدور رحاها على الأرض العربية، في العراق والشام واليمن، كما في ليبيا، وتطاول أذرعها الطويلة إلى مناطق في سيناء وأُخرى في تونس، يبدو السؤال عن أدوار الأغبياء في كتابة التاريخ العربي الحالي بديهياً، خصوصاً من بعض القادة العسكريين، الذين يتجاهلون الحقائق على الأرض، ويستجيبون لكثير من الأضاليل، لتكون النتيجة خسارة المعركة وسقوط الآلاف من الضحايا والملايين من الخسائر.

Ad

لأنَّ قراءة التاريخ تعلّم الدروس والعبر، كان لا بد من أن نقرأ شهادة قائد عسكري ألماني، يدعى إريك دورتشميد، دوَّنها في كتابه المُثير للجدل «دور الصُدفة والغَباء في تغيير مجرى التاريخ»، الصادر قبل أشهر في طبعة جديدة عن دار «المدى» السورية، محاولاً اكتشاف سرّ ما سماه «العامل الحاسم» في المعارك الشهيرة عبر التاريخ، والذي قد يكون شيئاً هزلياً وغير معقول ولا يصدَّق في بعض الأحيان.

يحكي الكاتب قصته مع الحرب في المقدمة، مشيراً إلى أن الحرب كانت تطارده منذ الصغر، فحين كان في الثامنة من عمره فقط، يقول الكاتب، عاد الأب ذات يوم مشمس وقال لابنه: «لقد أعلن هتلر الحرب».

ومنذ هذه اللحظة يعرف الكاتب، وطوال عقود تالية عدة، كيف ارتبطت حياته بالحرب على نحو لا يمكن تفسيره، وأنه رأى كثيراً من أهوالها وأتيحت له رؤية رجال حمقى مثل هتلر عن قرب. يقول: «قد توجد حروب عادلة، غير أنّي لم أشهد واحدة لم تنتهِ بآلامٍ مَهولة».

وفي حين يعتقد الكثيرون منذ بدء الخليقة، أن التاريخ يكتبه المنتصرون فحسب، يحاول الكاتب هنا جاهداً مستخدماً كثيراً من الأدلة وعدداً لا يُستهان به من الشهود، البحث عن الرواية الحقيقية لتاريخ المعارك الفاصلة، لأجل تقديم مادة علمية موثقة للقارئ تنسف كثيراً مما عرفنا عن عبقرية قادة عسكريين أوروبيين أفذاذ، مثل نابليون بونابرت، وعن أسباب مضحكة لخسارة بعض الحروب، من «الحصان الخشبي» لطروادة «سنة 1184 ق م، إلى حفنة مسامير في معركة جسر واترلو سنة 1815، إلى ثلاث سيجارات في معركة أنتييتام سنة 1762، إلى صفعة على الوجه في معركة تانينبرغ سنة 1914، إلى لسعة نحلة في تانغا، خلال الحرب العالمية الأولى.

يقول الكاتب في مقدمة الكتاب، الذي ترجمه محمد حبيب، إنّه يستطيع أن يفسر الحروب وفقاً لنظرية «العامل الحاسم» في المعركة، من خلال الحادث الذي يحوّل النصر إلى هزيمة في لحظة تُعرف باسم «العامل الحاسم»، معتمداً على ذاكرةٍ واسعةٍ من السجلات العسكرية ورسائل الجنود وروايات القادة العسكريين، التي اطلع عليها بحكم عمله العسكري، ليغطّي عدداً من المعارك المعروفة، على مدى تاريخ الحضارة الأوروبية، وما حدث فيها من أخطاء فادحة، ناتجة من سوء تقدير أو ضعف في الكفاءة القيادية أو انعدام الجرأة في اتخاذ القرار، أو بسبب عدم وجود الرغبة في الإقدام على تغيير مسار هذه المعارك الفاصلة، ما يسبب في النهاية الهزيمة.

ينطلق الكاتب من قاعدة واقعية جداً، هي أن معارك كثيرة حُسمت بفعل عوامل مثل: «الطقس أو الذكاء الحاد أو السيئ، أو البطولة غير المتوقعة أو عدم الكفاءة الفردية، وأنّ نظرة تأمل وتمحيصاً في التاريخ العسكري منذ حصان طروادة إلى حرب الخليج تظهر بوضوح أن الأخطاء والصدف أدت دوراً حاسماً لا يقل عن، بل يفوق في كثير من الأحيان، دور الشجاعة والبطولة والإقدام»، هكذا يعبّر الكاتب بوضوح.

أصابع الشك

يريدنا الكاتب أن نتوقف بأصابع الشك والريبة أمام انتصارات كثيرة لم تتحقق عبر الحماسة والشجاعة والبطولة العسكرية، بل يتحدث عن كثير من انتصارات تحققت بالصدفة، التي يعتقد أنها تمثل مع الشك: «أهم وأكثر عناصر الحرب شيوعاً»، هكذا بدأ إريك مقدمة الكتاب، التي تحمل عنوان «العامل الحاسم ساطع وجلي»، حيث يحكي كيف كان للقرارات الفردية والأخطاء الناتجة من سوء تقدير بعض القادة العسكريين، أو ضعف الكفاءة العسكرية لهم، دور حاسم في تغيير مسار معارك مهمة ونقاط فاصلة في التاريخ.

يقول المؤلف: «التاريخ هو الشاهد. كم من جيوش هُزِمت بسبب غباء وعدم كفاءة قادتها. الحرب ليست مجرد مارشات ومجد عسكري، إنها رحى الموت، وإذا كثفنا رأي «كليمنصو»، وهو الرجل الذي أخرج فرنسا من أهوال الحرب العالمية الأولى، فإن من المهم جداً أن تُترَك الحربُ للجنرالات».

خصص الفصل الأول من الكتاب لقصة «حصان طروادة» 1184 قبل الميلاد، حيث بدأ إريك الفصل بالإشارة إلى أن بعض الكهنة عارض الملك القاسي فريام، الذي انطلت عليه خدعة الإغريق، لفتح ثغرة في المدينة الحصينة، ليمر منها حصان خشبي كبير يفترض أنه هدية للملك والمدينة، فإذا به خدعة إغريقية شهيرة، فقد ملأوا الحصان بالجنود الذين دمروا المدينة وانتصروا عليها.

يتذكر الكاتب أن ثمة من قال آنذاك: «لا تصدقوا هذا الحصان، مهما يمكن أن يكون، لأنني أخشى هؤلاء الإغريق، ولو حملوا لنا العطاء بأيديهم»، إلا أن الملك صاحب القرار رفض هذا الكلام وابتلع الطعم تماماً وحتى الثمالة، كما يقولون.

ضياع «الصليب الأعظم»

يتجوَّل الكاتب بين الدمار الذي تخلفه الحروب، متأسِّفاً على أعمار رجال شُجعان تورطوا، للأسف، في هجومات طائشة، حيث لا تصدر الأوامر عن فهم واضح لحالة المعركة، إنما عن جهل، أو عن ضغينة، أو ببساطة لتحقيق نصر شخصي. يذكرنا الكاتب بعبارة قالها ريموند دوتريبولي لملكه الإفرنجي غي دولوزينيان قبل أن ينطلق ريموند إلى لقاء جيش السلطان المسلم صلاح الدين الأيوبي. سأل القائد الملك: «سيدي اسأل نفسك هذا السؤال: لماذا أريد خوض المعركة؟ أمن أجل مجد أمتي... أم لمجدي الشخصي؟».

وفي المناسبة، فإن صلاح الدين مؤسس الدولة الأيوبية (1169 -  1193م) احتل الفصل الثاني من الكتاب «ضياع الصليب الأعظم»، بوصفه واحداً من القادة العسكريين المحظوظين، بالقتال على أرض يعرفها جيداً على عكس عدوه الذي جاءه من أوروبا غازياً، لا يعرف الطبيعة الخاصة للأراضي العربية، ولا يستطيع التأقلم مع درجة الحرارة اللاهبة لوجوه الجنود الأوربيين الذين يرفعون شعارات حماية القدس من المسلمين، بينما يحتلون الأرض العربية ويرتكبون المجازر كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ويعجزون حتى عن تحقيق النصر، بسبب عدم كفاءة كثير من قادة الحروب الصليبية.

يقول الكاتب مُعترِفاً بخلاصة ما يمكن قوله عن الحروب الصليبية، حيث كان «العامل الحاسم» في معركة «حطين» هي صحراء لا ترحم لعبت لمصلحة صلاح الدين. يوضح: «سَمَتْ كلمةُ الشرف المسلمة، فوق الغدرِ المسيحي، والحقيقة التي لا جدال فيها هي أنّ صلاح الدين أعظم وأنبل مقاتل حمل السيف في عهد الصليبيين، ثم إن ضياع الصليب الأعظم في موقعة حطين قصم إيمان الفرنجة، وكان النصر لله لا للمسيح، كانت موقعة حطين نهاية للتفوّق المسيحي في الشرق الأوسط، وأطاحت بكل حركة الفرنجة».

حماقات صدام حسين

يحكي الكاتب كيف تورّط صدام حسين في دخول الكويت في 2 أغسطس 1990، بعدما تكبّد خسائر فادحة في الأرواح والأموال خلال سنوات حربه الطويلة مع إيران، بسبب توقف إمارات الخليج عن دعمه مالياً، فوجد صدام نفسه الحل في وضع يده على الكويت، خصوصاً بعدما أصدر الرئيس الأميركي بوش ورئيسة الوزراء البريطانية تاتشر مرسوماً بتجميد الأرصدة الكويتية في أميركا.

يقول الكاتب: «وعندما سلمته السفيرة الأميركية غلاسبي، رسالة شفاهية اعتبرها صدام حسين رسالة استحالة من الرئيس الأميركي جورج بوش، وبدءاً من هذا الخطأ القاتل في الحسابات تحوّلت عملية احتلال الكويت إلى رحلة طويلة من الحماقات والتناقضات بالنسبة إلى صدام، وكانت نصائح قادة استخباراته حمقاء في تفاؤلها».