في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي كانت حصة الأرباح تذهب إلى اولئك الموجودين في القمة في توزيع الدخل بالولايات المتحدة، وبدأت نسبة الواحد في المئة ترتفع بكثرة، وطوال عقدين من الزمن كادت مهنة الاقتصاديين لا تلاحظ ذلك، ثم في مطلع عام 2000 بدأ توماس بيكيتي، من كلية باريس الاقتصادية وإيمانويل سايز من جامعة كاليفورنيا – بيركلي، بنشر الدليل الذي صدر بشأن معلومات خدمة الدخل الداخلي، عن أن كبارَ من حققوا الكسب قد تضاعف عددهم منذ سنة 1980 وكانت أعلى من أي وقت مضى منذ الركود الكبير. وأظهرت دراساتهما وجود مزيد من المكاسب الدراماتيكية وهي تزداد (حصة الدخل التي ذهبت إلى من في القمة من 0.1 في المئة تضاعفت الى أكثر من ثلاثة أضعاف في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي) بينما تضاعفت حصة من في قمة 0.01 في المئة إلى حوالي أربعة أمثال.

Ad

ومنذ ذلك الوقت أصبحت اللامساواة موضع تركيز رئيسي للبحوث الاقتصادية، وفي الاجتماعات السنوية للجمعية الاقتصادية الأميركية وطائفة من المنظمات المرتبطة التي حضرتها في سان فرانسيسكو منذ الأسبوع، أحصيت ما لا يقل عن 70 دراسة وخطابا ومناقشات تتمحور حول التباين في الثروة والدخل. ويتقدم هذا الموضوع في مناقشات العديد من الأمور الاخرى، كما يقول نلسون شوارتز في صحيفة نيويورك تايمز، إذ يرى أنه "في السنوات القليلة الماضية حدث تغير كبير في الاتجاه السائد للمهنة، وذلك بحسب ستيفن فازاري بروفسور الاقتصاد في جامعة واشنطن في سانت لويس الذي كان قد جاء الى المؤتمر بحثاً عن وظيفة كخريج في سنة 1982 والذي يقول إن قضية التباين في الدخل لم تلق صداها في الحقل الاقتصادي وقد أهملت وتم تجاهلها الى حد كبير.

ومن المثير للاهتمام أن هذا التوسع في بحوث اللامساواة حدث في عقد من الزمن شهد قدراً طفيفاً من هبوط حصة الدخل التي ذهبت الى شخصيات القمة، وذلك بحسب بيكيتي وسايز والعديد غيرهما، ثم وصلت حصة الواحد في المئة لمن هم في القمة الى ذروتها في سنة 2007 عند 22.8 في المئة، وفي سنة 2014 بلغت 21.2 في المئة.

 وهكذا تجاهل الاقتصاديون الى حد كبير ظاهرة اقتصادية رئيسية ابان حدوثها وقد تملكهم الآن الهاجس بشأنها على الرغم من أنها كان يمكن ألا تصل إلى ذروتها أو أن تتوقف على الأقل، والسؤال هو ماذا وراء ذلك؟

الجواب قد يكمن في دراسة قضية قمع المعرفة الثقافية، وهذا ما يشير اليه دان هيرشمان المحاضر في علم الاجتماع الاقتصادي في جامعة ميتشغان والذي سوف يبدأ العمل في هذه السنة كمساعد بروفسور في علم الاجتماع في براون، وذلك في فصل تحت عنوان "اعادة اكتشاف الـ 1 في المئة: الخبرة الاقتصادية واللامساواة".

يذكر أن التعبير المتعلق بقمع المعرفة الثقافية وضع قبل عشرين سنة من قبل مؤرخ العلوم في جامعة ستانفورد روبرت بروكتر، حيث كان يشير في ذلك الوقت الى جهود صناعة التبغ للتشويش على الصلة بين التدخين ومرض السرطان.

ولا يعتمد سرد هيرشمان حول تعامل مهنة الاقتصاد مع اللامساواة على مثل ذلك القمع المتعمد للمعرفة، إذ يقول إن الأمر يدور حول"الجهل المعياري" بدلاً من "الجهل الاستراتيجي"

وقد نشر المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية أول تحليل مفصل عن توزيع الدخل في الولايات المتحدة استنادا الى سجلات الضرائب في مطلع العشرينيات من القرن الماضي مع تركيز كبير على الشخصيات القريبة من القمة، لأنه عند تلك النقطة كان المواطن الأميركي وحده من يدفع ضريبة الدخل، وتسلم مكتب التحليل الاقتصادي في وزارة التجارة في ما بعد هذا المشروع ونشر معلومات مفصلة حول توزيع الدخل في حقبة الخمسينيات وأوائل الستينيات ثم في السبعينيات من القرن الماضي بصورة مقتضبة.

ثم توقف مكتب التحليل الاقتصادي عن هذا الجهد، لا بسبب الضغوط السياسية، بل لأن موارده كانت محدودة، وبدا أن الاقتصاديين لم يكونوا مهتمين بالأرقام، وكانت جماعة الاقتصاد الواسع راضية بمعرفة الانهيار الواسع في الدخل بين العمل ورأس المال، بينما كان اقتصاديو العمل أكثر اهتماماً بالمعلومات التي مكنتهم من الربط بين الدخل وبين جوانب متعددة مثل التعليم والجنس والعرق.

وحقيقية فإن كل تلك الدراسات كان يتعين أن تحاط بسرية تامة ترجع الى أن اولئك الذين كانوا في القمة ويتمتعون بأعلى نسبة من الدخل قد كلفوا بحماية خصوصية المواطنين، وحسب رواية هيرشمان فإن ذلك أفضى الى اخفاء ما كان يجري في القمة.

وعندما بدأ الدليل على ما كان يجري في القمة بالظهور في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي تجاهل معظم الاقتصاديين ذلك الدليل، ولكن الاستثناء البارز تمثل في ليستر ثارو من معهد ماساشوستس للتقنية الذي كان في تلك الفترة مثقفاً لامعاً أكثر منه باحثاً اقتصادياً.

وفي مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وبحسب رواية هيرشمان، فإن اقتصاديين بارزين من معهد ماساشوستس للتقنية وكانا على اتصال وثيق بالوسط الأكاديمي، وهما جيمس بوتربا وبول كراغمان، لاحظا ما بدا على شكل ارتفاع حاد في دخل اولئك الذين كانوا في ذروة القمة، كما أن التباين في الدخل كان بصورة محدودة قضية سياسية كبيرة، وقد استشهد بيل كلينتون بتقديرات بول كراغمان في حملتة الانتخابية في سنة 1992.

ولكن الأمر اقتصر على تلك الحصيلة فقط، ثم تغيرت أولويات بيل كلينتون بسرعة كما كان الحال بالنسبة الى اهتمام بوتربا وكراغمان في ما يتعلق بالبحث.

ويقول هيرشمان انه من مكان معترف به بين الأكاديميين أو حتى صلة وثيقة مع وكالة احصاء خاصة كانت المسألة مجرد حقيقة اقتصادية اخرى ضمن حملات الانتخابات الرئاسية.

ولم يتغير الوضع الا عندما تحرك بيكيتي وسايز ولم يكتفيا بنشر معلومات وبيانات عن التغير في توزيع الدخل منذ سنة 1913، بل عمدا الى تحديث ذلك التغير سنوياً وجعلاه متوافراً للجميع بحيث أصبحت الزيادة الهائلة في الدخل في أوساط القمة موضع تركيز رئيسي في عمليات البحث.

ويضيف هيرشمان أنه في ضوء الاهتمام المحدود من قبل صناع السياسة بشكل دائم ومع عدم ظهور مشكلة في عالم الاقتصاد فإن النظريات الاقتصادية والمعلومات التي تم جمعها رسمت جوانب الحياة الاقتصادية التي نعتبرها مهمة اضافة الى الطرق المحددة التي نستطيع من خلالها رصد التغيرات.

ولأن المعلومات غدت متوافرة في الوقت الراهن بدأ خبراء الاقتصاد ينظرون الى التباين في الدخل على أنه قضية تنطوي على أهمية اضافة الى طرح نظريات جديدة حول سبب ذلك الارتفاع الكبير في الدخل لدى طبقة القمة.

وعندما تمت مناقشة التباين في الدخل خلال حقبة التسعينيات من القرن الماضي كان التفسير الذي استند الى عقود من عمل الاقتصاديين حول الصلة بين التعليم والأجور يتمثل في " التغير التقني المبني على التحيز في المهارة" وهو ما جعل ارتفاع التباين يبدو محتماً ومرغوباً فيه الى حد ما. وفي الماضي أفضى التقدم التقني الى رفع مستويات المعيشة، ونحن لا نريد الوقوف في وجه مثل تلك الظاهرة.

وقد بدأ الاقتصاديون الآن باظهار مزيد من الاهتمام في التغيرات كما أنهم شرعوا في تقديم اقتراحات حول "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"، والتفسيرات الجديدة للزيادة في التباين واللامساواة، ولكنهم أبعد كثيراً عن التوصل الى اتفاق في الرأي حول ما يجري، وما إذا كانت هناك خطوات يمكن القيام بها في هذا الشأن، ولكنهم شرعوا في نهاية الأمر بالعمل في هذا المسار.