الفكرة المرئية
القصيدةُ تندلع من فكرة، لكنها ليست فكرةً مجردةً وذهنية، بل هي فكرةٌ مرئيةٌ، موسيقيةٌ ووليدة عاطفة. في الحياة العملية حين يصرخ أحدنا مُستشاطاً، يرتفع ضغط الدم لديه، وتضطرب أسلاكُ العصب فيرتجف، وتبتلُّ العين والأنف، وتنهمر المخيلةُ بحفنة صور خاطفة. يحدث كل هذا وأكثر عن غير إرادة. لو تبدّتْ كلُّ هذه الأعراض في صورةٍ لبدا الكائن في عين من يراه تكويناً غامضاً، غرائبياً، لا علاقة له بالواقع من قريب أو بعيد. ولذا تبدو القصيدة في وعي قارئها غامضةً وغرائبية، لأن اللغةَ فيها خرجت في لحظة عن طورها، وعن منطقها المعهود، وأصبحت لغة أخرى، غيرَ لغة القاموس، غيرَ لغة النثر.
هذا الأمر يستدعي موهبة خُصّ بها كائن حيٌّ بعينه. الفكرةُ لديه تخرج من كيان كُتب عليه أن يفكر، في حبة الرز التي في الصحن أمامه، وفي الدورة الخيالية التي تتحرك فيها مليارات الكواكب في المجرة التي ينتمي لها. الشاعر فيلسوف بهذا المنظار، "فيلسوف ولكن بقوى أرفع وأبعد"، كما يرى الشاعر شيللي، أو "فيلسوف كامن لا ظاهر"، كما يرى كوليرج. يتفلسف بواسطة أداة لا يُحسنها محترف الفلسفة. مسعى خُص به الشاعر وحده. ومن هنا مصدر امتيازه. ولكن هل يحدث هذا مع كل قصيدة؟ بالتأكيد لا. هناك قصيدةٌ لا تندلع من فكرة مرئية لها صوت التنهدات. شاعرُها يستكين داخل القاموس، يلون كلماته، أو يمنح علاقات هذه الكلمات ببعض طواعيةً موسيقية مهذبة أو مشاكسة، أو يبرع في تهيئة كلمات مصوّتة، تجعل الفكرةَ اللصيقة بها، والتي تمثلها بوضوحِ نهارٍ مشرق، مثيرة، مستفزة لها قوة النشيد. وأحياناً يتمتع الشاعر بذكاء قد لا يليق ببراءة شاعر (هنا يتحول الذكاء إلى احتيال)، فيُقبل على لغة القاموس ويبعث بها، وفق هاجس نظري مُسبق، صياغةً تتطابق بشكل سحري مع حاجة النظرية الشائعة وحاجة القارئ، بحيث يوفر رضى عند التقليدي عبر العدة البلاغية المتوفرة في كتب النقد القديم، وعند القارئ الحداثي عبر العدة التفكيكية، المتوفرة في كتب النقد الحديث. كلاهما يعرف كيف تُصاغ الجملة الشعرية، وفق الهوى النظري التي توفره الكتب المترجمة أو الكتب المنسوخة بصور مشوهة عن الكتب المترجمة، وثقافة الصحافة هذه الأيام. شاعر من هذا النمط، وهو الأكثر شيوعاً، تصلح عليه تسمية "الشاعر الرسمي"، لأنه نشأ وفق صياغة متطابقة مع متطلبات الموضة. "الشاعر الرسمي" ليس الذي يصلح لمنصّة وجمهور المهرجان، أو للجوائز وشاشات التلفزيون فقط. هناك شعراء لا يصلحون لهذه، ولكنهم يصلحون لخطاب معارض، يقف على قاعدة إعلامية لا تقل صلابة. وهم في الباطن لا في الظاهر، أكثر تحكماً بالمهرجان والجوائز ووسائل الإعلام الثقافي جميعاً. وسط هذا المأزق، وحين أقرأ الشعراء الكلاسيكيين، الرومانتيكيين، والمحدثين في العالم أجدني أبحث عن مسعى جدي في هذا التفلسف الانساني المُجدي يشبه مسعاهم في شعرنا العربي فلا أجده. هناك استثناءات دائماً، يستجير بها المرء من طوفان الافتعال العضلي الذي لا يُخفي السطحية والهُزال وراءه. شاعرنا، هذا إذا لم يكن خارجاً من مياه الصحافة الثقافية الضحلة الراكدة أصلاً، مازال يعتقد أن الشعر مهارة بالدرجة الأولى. وإن "لذاذة" الكتابة عنه يجب أن تتمتع بالعضلية والمهارة ذاتهما. ولذلك كثيراً ما تنسحب النباهةُ باتجاه "الإدهاش"، في الصورة والمفارقة في الفكرة. هذا الادهاش الذي ينتج عادةً عن ضرب من المفارقة اللفظية، أو المعنوية. عن ضرب من اللعب اللفظي أو المعنوي، والذي يعزز هذا المأزق هو تطابق عطاء الشاعر مع حاجة قارئه، لأن كليهما أمناء المرحلة الرديئة في التربية والثقافة، أمناء عن غير إرادة بفعل ظلامية المرحلة الانقلابية التي امتدت قرابة نصف قرن. إن مراجعة سريعة لـ"الفيسبوك" تمكّن المرء من رؤية الرطانة المتبادلة بين كثير من نصوص الشعر والنثر وبين قرائه. وافتعال الرطانة باسم التجريب وتجاوز الحداثة إلى ما بعدها يُطفئ البصيرة في الشعر، فلا يتركه يفكر، ويتأمل ويفلسف.