صيف لا ينسى أبداً!
في شهر يونيو الماضي، أقدم انتحاري من تنظيم "داعش" على تفجير مسجد الإمام جعفر الصادق في مدينة الكويت، ما أودى بحياة 26 مصلياً بين مواطن ومقيم، إضافة إلى مئات الجرحى.وفي الشهر التالي كشفت السلطات الكويتية عن خلية رباعية، تربط أعضاءها علاقة بتنظيم داعش، إنها الحادثة الأولى من نوعها على أرض الكويت.وفي الشهر الماضي، تم إعلان اكتشاف خلية مسلحة أخرى تنتمي إلى ما يسمى "حزب الله" في الكويت، وضبط كمية ضخمة من الأسلحة والمتفجرات، ليكتمل الثالوث الذي ترتكز عليه حالة مواجهة شبح الإرهاب التي نعيشها، ما يبشر بأننا نقف على عتبة خريف ساخن حافل بالأحداث.أدركت دولة الكويت هذا الخطر المحدق، واتخذت مؤخراً خطوات لتشديد الأمن في المطارات والمنافذ البرية والبحرية، كما تتخذ حالياً تدابير أمنية وطنية أخرى للحفاظ على مناخ الاستقرار والأمن الذي تنعم به بلادنا. لقد كان هذا الثالوث كفيلاً بأن يعصف بذاكرتي ويعيد إلى ذهني تفاصيل متوهجة كأنها حدثت بالأمس القريب، لاسيما أن الرياح السياسية العاتية التي تسود الآن في منطقة الشرق الأوسط كانت تفرض عليّ التفكير للتوقف والتأمل بعمق.صحيح أنني رجل أعمال كويتي، ولكنني مواطن كويتي قبل كل شيء، فمصاب الدولة مصابي، كما هو الحال بالنسبة إلى جميع إخواننا وأخواتنا في دولة الكويت.ليس صعباً أن يعتريك شيء من الخوف ويملأ عقلك الكثير من الأفكار المتشائمة خلال الأوقات المضطربة، ولكن بالنسبة إليّ شخصياً، على الأقل، وجدت في الآونة الأخيرة العزاء في بعض الدروس من تاريخنا، وتحديداً في الثاني من أغسطس 1990.ففي ذلك اليوم، كما نعلم جميعاً، قام العراق تحت حكم الدكتاتور السابق صدام حسين، باختراق حدودنا واقتحام مدننا، والسيطرة على شوارعنا وأحيائنا وممتلكاتنا. كان الاحتلال العراقي صادماً سواء في سرعته أو وحشيته.مات وفُقِد المئات من الكويتيين إبان الاحتلال، واضطر الآلاف إلى الفرار من أرض الوطن باحثين عن مأوى آمن لهم ولعوائلهم.ولم يقتصر الأمر على هذا فقط، بل امتد العدوان ليسجل جريمة بيئية فادحة؛ فقد تم إحراق المئات من آبار النفط، مما أدى إلى تلوث التربة والهواء واحتياطيات المياه العذبة، وبالتالي إيذاء الحياة النباتية الأصيلة التي كانت جزءاً من تراثنا الثقافي الذي نحتفظ به لأجيالنا القادمة، بل وامتد إلى زوال بعض الفصائل النباتية والحيوانية زوالاً تاماً.كما تأثرت الحياة الفطرية البرية والبحرية أيضاً، نتيجة لإلقاء عشرة ملايين برميل نفطي في مياه خليجنا، فضلاً عن أضرار جسيمة على سواحلنا.تتجلى أمام عيني تفاصيل تلك المأساة التي استشعرها كل كائن كان يحيا على أرض الوطن آنذاك، ومازال يعاني العديد من أفراد الشعب الكويتي، حتى اليوم، مشاكل صحية إثر هذا التلوث، كالأمراض النفسية وأمراض الرئة المزمنة وغيرها، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع معدل الوفيات.الحقيقة التي أريد الوصول إليها هي أن هذه الأعمال الوحشية لم تكن مجرد غزو لبحارنا وأرضنا فقط، بل كانت غزواً لوجداننا وذاكراتنا أيضاً، وإلى حد ما لوعينا كأمة وشعب.فبعد مرور 25 عاماً، أتذكر تفاصيل هذه الفترة التاريخية اليوم، ليتضح لي أن هذه الأعمال قدمت لنا دروساً قيمة تساعدنا في توعية وإرشاد دولة الكويت، وهي تستمر في مواجهة التحديات والتهديدات المحيطة بها، والتي قد تؤدي إلى إرباكنا، ولو للحظات، كما حدث في الصيف الماضي الذي ألهب قلوبنا خوفاً وألماً.يفيدنا الدرس الأول عن كياننا كدولة خليجية:فقبل الغزو كنا نميل إلى رؤية دولتنا الحبيبة واحةً للسلام معزولة ومنيعة من الحقائق القاسية للاضطرابات التي تواجه منطقة الشرق الأوسط، إلا أن الغزو الغاشم أزاح الغشاء عن هذه الرؤية، وانكشف الواقع، إذ تقع دولة الكويت في إقليم خطير جغرافياً ومضطرب سياسياً، فموقعنا ومواردنا الطبيعية، والدول المجاورة لنا - الصديقة وغيرها - جعلتنا محل اهتمام الدول الإقليمية والدولية.ومع تقدمنا فإنه من المهم ألا نغفل واقعنا السياسي، والواقع في عام 2015 يقول بأن دولة الكويت لاعب أساسي في الساحة الدبلوماسية الإقليمية، وعلى سبيل الضرورة، ينبغي علينا التركيز على الأمن الداخلي والإقليمي على حد سواء.يرتبط الدرس الثاني بأهمية وحدة الهدف أمام الأزمات:وقفت دولة الكويت قوية إبان الاحتلال، فلم تنقسم الدولة، بناء على أسس دينية أو سياسية. كنا شعباً واحداً حتى النخاع يربطنا هدف أسمى، ألا وهو التحرير والنصر. لم نفقد إيماننا على الرغم من اشتعال آبار النفط واحتراق أرضنا وتمزق وطننا. كنا، دولة وشعباً، متحدين بعزم، أسراً وجيراناً، نمثل بفخر بلداً صغير الحجم، ولكنه ذو أهمية دولية، ووجد نفسه في مواجهة أكبر التحديات.وبالحديث عن الغزو عام 1990، أفاد جيمس جاي كارافانو، وهو خبير أميركي في السياسة الدولية، بما يلي: "يُحدث القادة فرقاً شاسعاً في كيفية الخروج من الحروب... فكلما كانت القيادة أفضل، كانت النتائج أفضل".ولا يسعني إلا الموافقة على هذه المقولة، وهذا يقودني إلى الدرس الثالث: دور القيادة الحاسم.الشجاعة تأخذ أشكالاً عديدة، وهذا ما علمنا التاريخ.في أحلك أوقاتنا قبل 25 عاماً، خططت القوات العراقية لاعتقال أو قتل أميرنا الراحل الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، طيب الله ثراه، ومع ذلك رفض سموه، وبجدارةٍ وشجاعةٍ، المغادرة، إلى أن اضطر أن يغادر.وبتوجيهات سموه، قادت الحكومة، وبجرأة، قوة عسكرية ومدنية، كما قدمت القيادة الكويتية أيضاً الأموال والرعاية الطارئة للمحتاجين. والأهم من ذلك أيضاً، أن سمو الأمير الشيخ جابر، رحمه الله، لعب دوراً محورياً في حشد الدعم من الأمم المتحدة، والتي كانت لحظة حاسمة في تحويل الرأي العالمي لمصلحتنا، ممهداً الطريق لقوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة لشن هجوم مضاد حاسم ساهم في البدء بتحرير الكويت من الاحتلال الغاشم.تصنع هذه المواقف والقرارات الشجاعة التاريخ وتغير مجراه؛ فلو كانت الأمم المتحدة قد أخفقت في إدانة العدوان العراقي ولم تتصدَّ له على سبيل المثال، لكان الوضع أصعب بكثير ولتطلب وقتاً أطول لحشد الدعم الدولي للقضية الكويتية.تستحق تلك اللحظات والمواقف الشجاعة التي اتخذها الأمير الراحل، الاستذكار والتكريم، حين نتصفح أوراق الغزو بعد مرور 25 عاماً.ختاماً، واسمحوا لي أن أشارككم ما استخلصته: لقد كانت قيادة حكومتنا الجريئة وشجاعة إخواننا وأخواتنا في الكويت سبباً رئيسياً في إحداث الفارق، فلولا تلك الشجاعة، لما تمكنت قوات التحالف من العثور على موطئ قدم، ولا إيجاد موقع لمنقذينا، لا في البر ولا في البحر، لاستخدامه في تحقيق نصر سريع وحاسم. كان نصرها بطبيعة الحال نصراً لنا، تماماً مثلما كان نصرنا نصراً لها أيضاً.لا تزال هذه الدروس، إلى الآن، تشكل عدسة الرؤية السياسية لدينا في العالم، بشكل من الأشكال، فحين وجدت دولة الكويت نفسها في مرمى النار مرة أخرى في بداية فصل الصيف، وأنا أشير هنا إلى حادثة مسجد الإمام جعفر الصادق، ردت الكويت مرة أخرى بعزم وحذر، وشعور بهدف مشترك، وقيادة حازمة.قام صاحب سمو أمير البلاد، الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، بتفقد الموقع في غضون دقائق قليلة من التفجير والوصول إلى الموقع دون المرافقة الأمنية المعتادة، بل كان يرافقه شخص واحد فقط. تم علاج الضحايا وأسرهم باحترام كبير، بغض النظر عن انتمائهم السياسي أو الديني، فالشعب الكويتي، مرة أخرى، لم يعر اهتماماً للانتماءات السياسية أو الدينية، ولم يقلق على سلامته الشخصية في الكثير من الحالات. كان الناس الذين هرعوا إلى موقع الحادث، أو الذين تصادف وجودهم في المنطقة، يحاولون مساعدة إخوانهم في أوج حاجتهم إليها.الهدف المشترك. الأخلاق الراقية. أداء الواجب. القيادة. قد تستمر رياح الجغرافيا السياسية العاتية في التوجه إلينا بقوة قاتلة، ولكن كما أثبتنا منذ 25 عاماً، فإن القوى النابعة من صميمنا، والتي تشكل وتحدد جوهر شعبنا ودولتنا، هي أكبر من أي جيش مهما كان مجهزاً بالعدة والعتاد. ويمكننا جميعاً الشعور بالثقة عندما نعلم أن قوتنا وشجاعتنا ووحدتنا مستمرة وقادرة على مواجهة المخاطر مهما اشتدت.
مقالات
صيف 2015: أحداث وعبر
25-10-2015