العنوان أعلاه يطرح سؤالاً لم يكن طرحه منطقياً قبل أسبوع واحد، لكن خطاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في الاحتفال الذي أقيم لمناسبة المولد النبوي، الثلاثاء الماضي، جعل طرح هذا السؤال ضرورة.

Ad

فقد قال الرئيس إنه جاء إلى منصبه "بناء على رغبة الشعب"، وإذا أراد الشعب تنحيه، فإنه "سيتنحى"، كما أظهر الكثير من الاهتمام ببعض الدعوات والتحليلات التي تشير إلى "حشد واحتجاج كبيرين" في ذكرى "ثورة يناير"، وبدا أنه متابع جيد لبعض المعالجات الإعلامية، التي تظهر خصوصاً في منابر "إخوانية"، أو وسائط إعلامية تطلقها دول إقليمية معادية لحكمه، وتمعن في إشاعة أجواء من الإحباط بين المصريين، وتحرضهم على "الثورة" من جديد ضد ما تسميه "الانقلاب".

إن متابعة السلطات القائمة في مصر للمنابر الإعلامية المعادية أو المعارضة عمل جيد، كما أن رصد اتجاهات الرأي العام، وتحري عوامل الاحتجاج والإحباط فيه مسألة ضرورية، إضافة إلى أن التحسب للإرهاصات الاحتجاجية، وتطويق النزعات التحريضية شيء محمود، لكن الإفراط في ذلك، والمغالاة في تقييم أثره، يمكن أن يفضيا إلى عواقب وخيمة.

يبدو أن السلطات المصرية تغالي في تقدير الدعوات إلى "ثورة جديدة في ذكرى ثورة يناير"، ويبدو أيضاً أن تلك المغالاة يمكن أن تزيد عوامل "الإغراء بالحكم"، وتشجع مناوئيه.

ثمة ثلاثة عوامل يمكن الاستناد إليها لتبرير مخاوف السلطة من "يناير جديدة"، أو تشجيع المعارضة المصرية على إطلاق موجة "حشد وتثوير" في ذكرى تلك "الثورة".

يتعلق العامل الأول بما تكشفه تحليلات التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي؛ إذ تشير تلك التحليلات إلى موجة من التعبئة والدعوات المحرضة على "الثورة" من جديد.

يرتاح بعض الباحثين إلى الحسم بأن "مواقع التواصل الاجتماعي تلعب دوراً بارزاً في إشعال الاحتجاجات التي تقوم بها جماعات المعارضة ضد الأنظمة"، لكن هذا الأمر يحتاج مراجعة ضرورية، أو على الأقل نريد أن نعرف لماذا لم تنجح التجربة ذاتها في إيران، ولماذا سقط النظام في ليبيا دون أي دور يذكر لتلك الوسائل؟ ولماذا لم تتكرر المسألة بذات التفاصيل في بعض دول الخليج العربية؟

يجب ألا نغفل دور الإعلام بشكل عام في تشكيل بيئة الاحتجاج أو تعيينها، خصوصاً أن مصر عرفت نفاذاً هائلاً في هذا الصدد لـ"السوشيال ميديا" خلال "ثورة يناير"، لكن في مقابل ذلك، برزت وسائل الإعلام "التقليدية" مثل "القنوات الفضائية" و"الصحف الخاصة" كـ"بطل ودافع رئيسي" في "ثورة يونيو".

نعم... فقد لعبت وسائل الإعلام "النظامي" الدور الأكبر في بلورة الشعور العارم بالغضب من حكم "الإخوان" في مصر، كما مثلت آلية حشد وتعبئة بامتياز ضد سلطتهم، وهو أمر يبدو أنها حققت نجاحاً كبيراً فيه.

لكن اعتبار أن تلك الوسائل هي المسؤول الوحيد عن إشعال الثورات ليس دقيقاً على الإطلاق، واعتبار أنها باتت أهم من وسائل الإعلام "التقليدية" في هذا الصدد أمر يحتاج إلى مراجعة.

فحين اندلعت "ثورة يناير" كانت "السوشيال ميديا" أداة حشد وتعبئة وبلورة للغضب العام بامتياز، بل بنية اتصالية لوجستية للحركة والاحتجاجات، لكن تلك الأداة لم تكن تعمل وحدها، بل كان يساندها شعور عارم بأن العالم العربي يعيش "ربيعاً تاريخياً"، و"اتفاق عام" على أن "مبارك يجب أن يرحل، ونجله يجب ألا يحكم".

في مقابل ذلك النجاح لـ"السوشيال ميديا" عشية "ثورة يناير"، مدعومة بالسياق الموضوعي الملائم، متمثلاً بغياب أي شعبية لمبارك، لا يبدو أن السيسي في الوضع ذاته.

العامل الثاني الذي يفسر مخاوف السلطة في مصر يتعلق بتراجع الاقتصاد، وتدني معظم مؤشراته، في وقت تحالفت فيه بعض الحظوظ السيئة ضد إدارة السيسي؛ حيث تكفل سقوط الطائرة في سيناء بضرب قطاع السياحة، وأسهم تراجع أسعار النفط في تقليص المساعدات الخليجية، وزادت الضغوط على العملة الوطنية، في ظل ارتفاع سعر الدولار.

يعاني الاقتصاد المصري تدني معدل النمو في مواجهة الزيادة السكانية العالية، كما أن الفجوة بين عائد الصادرات والواردات تزيد باطراد، وبسبب تردد المستثمرين وعجز "القطاع العام" عن إيجاد وظائف جديدة ترتفع نسبة البطالة، بما لها من آثار سياسية واجتماعية خطيرة.

ومع ذلك فإن القطاعات الغالبة في الجمهور المصري ما زالت قادرة على التحمل، ويبدو أنها متفقة على استمرار دعم نظام السيسي، في ظل الحديث الدائم عن الأوضاع التي تشهدها بلدان مثل سورية، وليبيا، واليمن، والعراق.

يسخر ناشطون ومعارضون سياسيون كثيراً من استخدام النظام ومناصريه ما اصطلح على تسميته "متلازمة سورية وليبيا والعراق"، ويعتبر هؤلاء المعارضون أن الحديث عن تلك الدول ليس سوى "فزاعة" المقصود بها "تخدير المواطنين"، وصرفهم عن المطالبة بالإصلاحات، لكن الواقع يكشف تحسب قطاعات كبيرة من الجمهور المصري من السقوط في مستنقع الفوضى وخلق أوضاع شبيهة لتلك التي تعانيها هذه الدول.

تؤدي رغبة القطاعات الغالبة في الجمهور المصري في الاستقرار وتفادي الفوضى إلى تعزيز الثقة يالحكم... وهي الثقة التي تنعكس "صبراً واصطفافاً"، وتقلص احتمالات الاحتجاج.

العامل الثالث الذي تستند إليه بعض التحليلات التي تتوقع "حشداً واحتجاجاً واسعاً يمكن أن يفضي إلى ثورة جديدة في مصر"، يتمثل بالاحتقان الذي يسود بعض القطاعات، وخصوصاً الشباب، بسبب ملف حقوق الإنسان، وهو احتقان يترافق مع حالة من الشعور بالإحباط وانسداد الأفق.

يطرح هذا الاحتقان خطورة معتبرة على حالة الاستقرار التي تنشدها مصر، لكنه لا يحظى بأي مرجعية سياسية واضحة، ولا يتمتع بدعم شعبي واجتماعي مؤثر، وبالتالي، فإنه قد يصب في خانة الاحتجاجات العشوائية، التي ستقوضها القوى الأمنية، وسيمتنع الجمهور عن دعمها.

لا تمر السلطة في مصر بأوقات طيبة، والتحديات التي تواجهها كبيرة، لكن ليس من بينها "ثورة جديدة في يناير"، فما زالت القطاعات الغالبة في الجمهور المصري تؤيد هذا النظام، وتتفهم الصعوبات التي يواجهها، وتنتظر منه تحقيق وعوده.

* كاتب مصري