المجتمعات المدنية مهددة بسبب التطرف الديني وصراعات التعصب المذهبي، كيف يمكن للثقافة حل هذا الوضع؟
تعني {الثقافة} بشكل عام نظام المعرفة للشعوب لفهم العالم المحيط بالطبيعة والمجتمع، وفهم العلاقة بين الاثنين، وعلاقة الثقافة الدينية العلمية الأدبية بالقيم والأخلاق لتشكيل طراز الحياة الذي أخذت منه الثقافة وظيفتها الأساسية، حيث إن الثقافة تعطي معنى للجماعة، من هي وما موقعها؟ والثقافات القديمة كانت بصبغة قبلية، حيث إنها مجموعة {قرابية} تجمعها القيم والتقاليد. أما الإمبراطوريات الحديثة التي تشكلت بعد القبائل كالإمبراطورية العربية الإسلامية، المغولية، الرومانية، فقامت هويتها على {الدين}، وذلك لتستمد شرعيتها من خلاله وبقوتها العسكرية. وفي العصر الحديث؛ نشأت الدول من هذه الإمبراطوريات، فالدولة العثمانية انقسمت إلى دول قومية مثلاً، وهنا تبرز أهمية تبيين أننا شعب ولغة واحدة، ودين واحد، وفكرة الدولة الحديثة تختلف عن الإمبراطورية ولا تعتمد على الدين بل على القومية فتقوم على اللغة والتاريخ، وهما مكونان مهمان للثقافة، فالنظرة الارتقائية التاريخية التي ترى أن الثقافة البشرية أو التاريخ البشري واحد سوى أنه يمر بمراحل متدرجة، وأن تباين ثقافات شعوب المعمورة؛ ما هو إلا درجات في سلم التطور الارتقائي، فكل نظام معرفي كما نعلم ينمو ويتطور في إطار نظام لغوي خاص، وثقافة محلية خاصة، وتنتج هذه الثقافة مقولاتها كتنظيم العالم انطلاقاً من أشكال التنظيم الاجتماعي نفسه. ما أثر هذه الانتقالات على البشر، قبائل وجماعات؟ رفض الناس هذه الانتقالات، فظهرت ثلاثة أنواع لفهم الجماعة: فكرة الأمة الإسلامية، ومنها فكرة الخلافة وداعش، وفكرة الدولة الوطنية، وفكرة الدولة على أساس قومي لغوي، كالقول: العرب أمة عربية واحدة في دولة واحدة. يتناقض هذا الأمر مع الفكرة الدينية ويتصادم معها، فالمسلمون أمة إسلامية، والسلطات ليس مصدرها الشعب بل الله، والأحزاب الإسلامية تفسر الشريعة، لنطيعها وننفذها نحن، وبالتالي إحلال محل الذات الالهية. إذن تكمن الصدمة مع مفهوم الدولة الحديثة؟ تماماً، بدأ التصادم منذ القرن 19، منذ أطروحات محمد عبده ومحاولة الانتقال إلى الدولة الحديثة الديمقراطية والدستورية، ودعوات المصلحين إلى اعتماد الدستور واعتماد الديمقراطية، وهو ما مهدوا إليه بتسمية الشورى والصناعة، وكان الهدف الأول مواجهة الغرب، والهدف وطني، وللحفاظ على الهوية العربية الإسلامية للمنطقة. ومع ذلك، ثمة من اتهم المصلحين بالتغريب وتم تكفير بعضهم، كيف تفسر ذلك؟ لم يعتمد المجددون في الدين فكرة {المصلح الديني}، ولم يعتمدوا على الفكر الغربي بل على الدين الإسلامي والفلسفة والاجتهادات الفكرية، فخير الدين التونسي رجل دين، جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده كذلك، وهؤلاء رأوا أن ثمة تركيزاً على فكرة العقل، لا الاعتماد على الخرافة والأساطير، وكانت رؤيتهم موسعة، إذ كيف نفهم النصوص من دون فهم اللغة وأسباب النزول ومن دون تحليل لساني للنص ومعاني الكلمات؟ وأتت هذه الحاجة بسبب التأخر في تدوين السيرة النبوية، وللاستفادة من النصوص الدينية المقدسة، فالقرآن هو الوحيد المدون أما السيرة فدونت قبل 130 إلى 140 عاماً لا أكثر، وهو ما ترك مشكلة التدقيق في النقل. هل النقل دقيق؟ فالنص لا نغيره ويمكن الاختلاف على المعنى، وثمة 300 تفسير للقران الكريم، فالتنوع لفهم الدين، وبالتالي يدخلنا في مجال الاختلاف، والنبي يقول {اختلاف أمتي رحمة}، وهو ما دعا إليه المجددون. لذا؛ الجانب الأول في الإصلاح الديني هو فهم النص الديني بمعانيه كلغة وأسباب النزول وظروفه. أما الجانب الثاني فبقراءة القضايا المعاصرة الجديدة الطارئة، لفهمها وفهم علاقتها، والتوسع لتضمين التقدم العلمي في الفلك وفيزياء الفلك وغيرها. إذا لم نفهم الفيزياء الحالية كيف يمكننا مناقشة بعض القضايا التي اعتمدت على الطرق البدائية في الرصد الفلكي، كهلال رمضان مثلا؟ وما العائق الأساس لبحث نتائج التطور العلمي وإرفاقها بالقضايا الدينية؟ ثمة تعمد لإبعاد الناس عن الطرح العلمي؛ المشكلة الأولى في العلمانيين الذين لا يدرسون التراث دراسة كافية {النص الديني}، كذلك الفقهاء الذين لا يدرسون العلوم الحديثة كالاقتصاد الحديث، البنوك، الصناعات، البورصة، الطب، حتى المستشفيات وتنوع الملابس. نتكلَّم عن مجتمع فيه ظواهر جديدة لا بد من دراستها والتمعن فيها، ثم أهمية أن ندرس النص الديني لبناء علاقة جديدة. لا أفهم كيف يسمح رجل دين لنفسه بالقول إن الأرض مسطحة؟ أو إن الأرض لا تدور حول الشمس، أو تقديس الشخصيات المتوفاة وصولاً إلى قدرة التشفي ببولها أو بقايا جثتها؟ كيف يمكن لجسده بالمعنى الفيزيائي الطبي أن يكون خالياً من البكتيريا والجراثيم والفيروسات؟ هذه هلوسة وجنون! ولكنك اتهمت العلمانيين بأنهم أحد أسباب هذا الجمود، ما رؤيتك في ذلك؟ اتهمت العلمانيين بالعزلة المقابلة، وأتحدث عن التيار الأقوى، لابتعادهم عن التراث، يجب دراسة التراث كما فعل كل من حسين مروة، فراس السواح، جواد العلي، الجابري، هشام جعيط ومحمد الأمين، وهذا لا يكفي، ولا أتحدث عن استثناءات بل عن قاعدة، لا بد من دراسة العلم الحديث والنص. فالتركيز على اختصاص ضيق هو انعزال، ولا أقصد التوسع بل الاطلاع، وإلا كيف نفسر دوران القمر حول الأرض بسرعة ثابتة، فهل يكون في ثلاثة أماكن مختلفة؟ لم العيد مختلف في الدول والمذاهب مع توافر التلسكوبات! لا بد من تلسكوب إسلامي محدد، موحد للهلال، يحتفل بعيد يجمع المسلمين كلهم. ماذا عن رفض الفقيه المعاصر العلم الحديث؟ يخشى الفقيه المعاصر على سلطته، لا يقبل رجل الدين انتقال السلطة من الفقيه إلى الفلك، وثمة غيرة وتحاسد بشري يمنع إرساء الدين والمزاوجة بينه والعلم، رغم أن العلم يخترق الحياة كلها، نحن محاطون ومخترقون بمنتجات العلم ومع هذا طريقة التفكير والاكتشافات لا يتعاطى معها الفقهاء. الانغلاق على الذات والتقوقع على الماضي والفخر بالأمجاد سمة عربية بامتياز، كيف يمكن تجاوزها؟ الانغلاق على معارف الماضي موجود، وثمة أناس غير متدينين جامدون بانغلاقهم على الماضي كذلك، وموضوعات الانغلاق ورفض التجديد قضية لوحظت في كل المجتمعات البشرية ولا تمثل سمة عربية فحسب. لاحظ عالم الاجتماع الأميركي أوغبورن بداية ذلك، فكلما تطور العلم نلاحظ تخلف القيم الاجتماعية، ولكن المدارس تردم الفجوة. لكننا متأخرون في ذلك، فإذا قال السلفي {أعتمد النص}، وكان لا يفهم اللغة العربية ولا يجيد التبحر في عالمها، فلن يفهم الظروف والشروط البنائية والتركيبية للغة وهذه كارثة، وإذا اردت تطبيقه على الظاهرة الجديدة، لن يعرف ملابستها وأصلها وتكوينها. يعطينا النص أدوات حول الظاهرة الجديدة. كيف يمكن توجيههم نحو دراسة اللغة وتذوقها كمرحلة أساس قبل قراءة النص، لا عودة إليها وتوظيفها بحسب رؤيتهم؟ حيثما وجد النقاش الحر؛ تقدم المجتمع واستمر، ولكن انعدام الحرية برغبة نظم سياسية منغلقة دكتاتورية غير راغبة بهذا التثاقف، فإن الأفكار المتأخرة تنتصر. باختصار، فإن {الترقّي} (أو ما سمّته الأجيال اللاحقة بـ{التقدم}) يقوم بالديمقراطية والعقلانية في جوهره، ويرتبط بمواجهة التحدي الغربي، التوسعي-العسكري. من هنا، حرص الأفغاني على فكرة الجامعة الإسلامية، ودعوته اعتماد اللغة العربية في الآستانة لدمج ما كان يسميه رابطة الجنس (الرابطة القومية) برابطة الدين (الجامعة الإسلامية). لكن التطرف يجتث محاولات التطور والتجديد كافة، وهي موجودة عيانا بحركة {الداعش}. فكيف نفسرها؟ {داعش} كفكرة ستبقى في المجتمع، وهي مثال لتسييس وأدلجة الهويات الجزئية المعتمد على خزين تاريخي، ولا يرجع ذلك إلى الطابع المركزي المفرط للدولة الحديثة وسياساتها الاحتكارية بل يتعداه إلى نشاط وأيدولوجيا الإسلام السياسي وشرائح من المؤسسة الدينية وطبقة رجال الدين، وما يحيط بها من مؤثرات إقليمية وعالمية. ما الدور المفترض للدولة الحديثة مواجهة لذلك؟ لا بد من وجود فكر الدولة القوية التي تكفل الأمن والسلم الاجتماعي. يجب ألا تهدد وظيفة الدولة حياة أحد، بل أن تحمي الناس من عدوان أفراد المجتمع على بعضهم، كي لا ينتهي المجتمع كجثة. الجثث وحدها لا تفكر، ولكن نحن أمام مجتمع وسائل الاتصال فيه هي الأساس، وفي يد الدولة أن تعزز حرية الرأي والنقاش والحوار فيها، لكنها غير راغبة. يحصل السلفي على تمويل من الأثرياء والمشايخ، لذا نحن أمام ورطة سياسية بتنظيم وسائل التواصل الاجتماعي، فالميديا بالتلفزيون والراديو محتكرة من الدولة والقوى الأصولية، وتوزيع الموارد غير صالح لدعاة الحداثة والعلم، وهذا الفضاء الجديد والإعلام الحر وغير المنظم الرسمي في الغرب يعمل ويشتغل لأن ثقافة الاهتمام بالإعلام المضاد عالية جداً لكن عندنا ملاحق، ولا نملك أدواته، نحتاج إلى دولة محايدة تحترم تعدد الآراء. تعدد الآراء قد يوجد أفكاراً مضادة للدين، وقد تكسر تابوهات تمثل إرثاً قديماً للمجتمعات، هل يمكن قبول ذلك في مجتمعاتنا؟ أقول لسلفي من معارفي: لنفترض أن سين كفر بكلمة أو خطأ أو تجديف أو هرطقة. لماذا ينبغي قتل هذا الشخص؟ لا بد من تقديم دعوات {الموعظة الحسنة} ومناقشة الحدود من باب {لا إكراه في الدين}، وأنا بذلك لا أدعو الناس إلى الكفر، بل إلى الإيمان العقلاني، وبناء المجتمع لا هدمه. {خير العبادات العمل}، لذا لا بد من بناء المجتمع لا هدمه، لا بد من محاربة الفقر والعنف واضطهاد الآخر. أما الالتزام بالعبادات فمسؤولية فردية. الحساب فردي والعقاب فردي، فلماذا يقوم بشري ليعاقبني ويقوم بمكان الذات الإلهية؟ تترأس مركز الدراسات العراقية. ما دوركم في ردم الهوة بالخطاب الديني؟ الخطاب الديني في العراق خطاب طائفي، وكحال المنطقة العربية مررنا بأزمات متتالية أنشأت فراغاً تحول بالثقافة السياسية القائمة الأيدولوجية الماركسية العروبية القومية الاشتراكية وغيرها إلى الهوية الصغيرة. ومع صعود الإسلام السياسي اكتسبت هذه الهويات طابعاً طائفياً، لذلك لا بد من بناء الديمقراطية وتعزيز المجتمع المفتوح ليساعد على تخفيف اللاعقلانية وتقليصها، ويقوم مركزنا بدراسات كثيرة تحليلاً للطائفية وجذورها وأسبابها، وبذلك ننشر الوعي بمخاطرها. وبهذا المعنى، كيف كان الاحتكاك مع رجل الشارع؟ نحن لسنا حزباً سياسياً، بل نمثل أحد مراكز الأبحاث لإنتاج المعرفة، ولانتشار المعارف تحتاج إلى الوسائل: المقال والكتاب والموقع الإلكتروني، وذلك كله نستعمله لكتابة آراءنا ونشرها، بمعية المؤسسات العلمية والمثقفين والمتنورين، وهي عملية تراكم صغيرة تؤتي ثمرها. الربيع العربي • في لبنان وعينك على العراق... أهو وابل {الربيع العربي}؟ أولاً، الربيع العربي حركة جماهيرية من أجل التغيير، لفك النظام السياسي القديم، المحتكر من مجموعة صغيرة عسكرية أو مدنية أو مزيج من الاثنين. ونجحت هذه الحركة في تحقيق أهدافها في البلدان ذات الانفتاح الجزئي كتونس ومصر، وإلى حد ما اليمن. ولكنها كانت عاجزة أمام دولة مدججة بالسلاح وليس لها أي اعتبار للحياة الإنسانية كليبيا، ففي أول تظاهرة كانت قوات القذافي تضرب الناس بمضادات طائرات، لذا كان التدخل العسكري لكسر الآلة العسكرية من الخارج وفتح المجال، وهو ما لم يحدث في سورية. الخطوة الثانية في حركات التغيير محاولة عودة النظام القديم كما في مصر، ومحاولة للعودة في اليمن انتهت بحرب أهلية. لذلك نحن أمام دول فاشلة في تمثيل مجتمعها وفي الاستجابة لمطالب التغيير، وفاشلة في الحفاظ على سلطة الدولة على كامل التراب الوطني، وفاشلة في فتح المجال السياسي أمام آخرين حتى تنهي احتكارها. ويجري هذا الصراع بين قوى مدنية وقوى دينية ضد نظم مغلقة، ولكن الشكل الطاغي في الظاهر كأنه صراع طائفي. • كيف يمكن ترسيخ معنى {العيش المشترك} حلا للصراعات الطائفية؟ فكرة العيش المشترك موجودة على قطاعات واسعة. لكن حقيقة الخلاف على توزيع السلطة السياسية والموارد لا رقعة البلد، وهذا صراع موجود في فلسطين بين رام الله وغزة، لا سنة ولا شيعة، وفي ليبيا كلهم مسلمون على المذهب المالكي، والصراع بين القبائل على السلطة والنفوذ. تكمن العلة في كيف نشرك المناطق كلها في السلطة السياسية والبرلمان، خصوصاً في بلد يعتمد على النفط ولا اقتصاد فيه، والدولة كموزع للدخل ولا موقع للإنسان فيه، هنا تنتهي صراعاً على الموارد لا المذاهب. • ما الأولويات التي تحقق دولة قوية بعيداً عن التطرف والانغلاق وتحفظ الأمن الوطني؟ * بناء أنظمة حكم ديمقراطية مفتوحة على المشاركات كافة، بناء اقتصاد حديث، ومؤسسات تعليم حديثة، مؤسساتنا التعليمية متخلفة وضعيفة. * الاهتمام بتقليص الفوارق في الدخل والخدمات والتعليم بين المناطق والجماعات والطبقات إلى أدنى حد ممكن. * تشجيع التغيير الثقافي والإصلاح الديني بشكل متدرج وبلا عنف. سبقنا العالم ونحن ما زلنا نبكي على ما مضى.
توابل
فالح عبدالجبار: الابتعاد عن القضايا المعاصرة ينتج فتاوى الهلوسة والجنون!
30-06-2015