د. محمود عثمان في «قمر على بيت الفرزدق»...
حداثة شعريّة طاعنة في الأصالة
قلّما تلتقي وجهاً لوجه مع عنوان ديوان يحتضن اسم شاعر قال كلمته ومشى. ربّما لأنّ الشاعر يجد اسم شاعر آخر، ولو كان مارداً يطلع من قمقم الحبر، آخذاً من دربه ومن وهج اسمه. وكم من الدواوين لم تأتِ أكثر من تقليد رديء لأصحاب قصيدة كبار، نظنّ، لولا الرداءة الواضحة، أنّهم هم شعراؤها، وليس الذين أثبتوا أسماءهم على الغلاف.في «قمر على بيع الفرزدق»، يفتح الشاعر محمود عثمان، المكمليّ، شراع محبرته قِبلة جزر، يعلو فيها للدهشة شجر، وتزنّرها أمواج تزيّن أقدامها بخلاخيل القوافي.
يستهلّ عثمان فضّة قمره الفرزدقي باسترجاع صورة خالته «فطّوم»، المرأة المثقلة ببياضها، التي أساءت إليها سُمرة رجل وأدارت ظهرها للحياة وخلفها الرضيع مشتاقاً إلى أبيض ثدييها، ولم تكن مريضة سوى بالبياض: «فطّوم كانت خالتي البيضاء/ تزوّجَتْ بأسمر دميمْ/ وجاءها المخاض/ لم يشبع الرضيع من حليبها/ وقيل ماتت خالتي/ من مرض غريب/ سمّيته البياض». وعثمان الحامل زبد العاطفة بين جناحَي خياله، هو ابن صومعة الشعر، يأوي إليها عارياً إلاّ من ذاته، حيث يفتح كيس القوافي على مهل فينثرها على تراب طاهر ويعيد تأليف دنياه: «لصومعة الشعر إنّي أوَيْتُ/ وفوق التراب الطّهور ارتميتُ». وعثمان لا ينفصل عن الأرض، فهو أيقونة على صدر ترابها، وبعضٌ من حنين العنقود إلى سماء لم تطُل فيها الإقامة: «أنا كمشة من حنين الكروم/ إلى جنّة كنتُ فيها عَصَيتُ». وهو آهُ النهر والغربة التي تجري أسيرة مائه: «أنا شهقة النهر بين الصخور/ أنا غربة الماء فيه جرَيتُ». ولا يتأخّر القارئ ليكتشف أن عثمان يرسل بيته الكلاسيكي منساباً كمياه نهره ذي الغربة، ويعرف تجنّب الهدر اللغويّ واحتراف الوضوح الجميل المتكئ إلى رمزيّة شفّافة لا تعطّلها الطلسمة أو شيء إليها.وعثمان واحد من مطاردي الجمال العتاق، وأحد الجاثين على خشوع في معابده، إلاّ أنّ الجمال علا فقره ويده القصيرة وكان إلهاً يُصلّى له بالجَيب لا بالقلب: «عبدتُ الجمال/ وكنتُ فقيراً/ فكان الجمال نصيب الغنيّ».والشاعر الآتي بما فيه من وجع شخصيّ إلى قصيدته، لا ينسى وجع الآخر، ولا يهرب من نار المواجهة، إنّما يوجّه «رسالة إلى الدكتاتور»، ويخاطبه بكلمات ذاتِ إِبَر تقطر عاطفة تتّسع لكلّ الموجوعين. فهو مصرٌّ على تذكيره بأنّ حلاوات عيشه تأتي على حساب حرمان الآخرين الذين جعلهم مضرَّجين بأحلامهم: «تذكّر عندما تصحو/ طيور الفجر في بالِكْ/ وتأتي زوجُكَ المغناج بالقهوه.../ بأنّ هناك أرملةً/ بلا زوج يناغيها/ تذكر عندما تلهو/ يداك بشعر أطفالك/ بأنّ هناك أطفالاً/ بلا زادٍ ولا مأوى»... وإنّ هؤلاء الشهداء، الذين أنزل الدكتاتور ترابهم عن أكتافهم في وقت مبكر، خرجتْ من حناجرهم في المذبحة أسراب عصافير كأنّها هي وهم خرافة، كأنّها هي وهم عبروا من الحياة إلى الموت أو ما بعده على جسر كذبة: «تذكّر أنّهم ذُبحوا/ فسالت من حناجرهم/ عصافيرٌ خرافيّه/ وماتوا قبل أن حلموا/ بألعاب سماويّة»...أمّا «الفرزدق» فقد لجأ إليه عثمان حاملاً على كتفه جرّة خسائره الوجوديّة، الراشحة حزناً يتناسل في الصدر تناسلاً خرافيّاً: «قمر على بيت الفرزدق/ يشتهي لون الحنين/ وأنا أعدّ خسائري كالصّيرفيّ/ وأكنز الخيبات في بنك السنين»... وحزن عثمان يتبنّى حزن الناس المقهورين لتصير الأجنّة على ظهر الشاعر تحت رحمة سكّين الرحيل: «وأجنّة الأحلام في ظهري يفقّسها الرحيل المرّ في الليل الظعين/ ودمي على جسد القبائل كالأرزّ موزّع/ بين اليتامى والجياع وباعة الأمل الرّزين»...وبعيداً من مأساة الحروب، يلوذ عثمان بالطبيعة، ويتقمّص خريفها، فمع أجراس الخريف الصفراء يستيقظ جرس زمنه: «أوَكلّ خريف يحضرني/ تقرع ناقوسك يا زمني»، وإذا كان للأشجار عراء فللشاعر أيضاً أوراق وبلابل تهجر أغصانه: «تسقط أوراقي لاهثة/ ويفرّ البلبل عن غُصُني». ومن الخريف يطلع عطر الغربة الموجع الذي يفتح الأشرعة ويهدي إلى السفن تشرّدها: «والريح تحرّك أشرعتي/ لتشرّد في الدنيا سفني»... وعثمان يحنّ إلى التراب قبل الأوان، ويرغب إلى الاتحاد بالأرض: «من يعجن قلبي بترابٍ/ تذروه الريح وتحملني»، وبعضٌ من هذا الاتّحاد أن يرى الشاعر جبلاً فيه، وجبلاً خارجه على شيبٍ وعلى شَبَه: «لي جارٌ جبلٌ يشبهني/ يغمره الشيب ويغمرني». ويصعّد عثمان نزق معانيه إلى أن يشتهي الغيم الأزرق كفناً وحجر الوادي وسادة: «ما أجمل روحي عاريةً/ والغيم الأزرق لي كفَني/ سأنام على حجر الوادي/ مُتّكئي زندك يا وطني».وإلى المرأة يمضي عثمان بكلّ ما فيها من روح وجسد وجمال. فأنثاه تنتمي إلى عشب السهل: «أشمّ في ردائها السهول حين تُعشب»، وفي ردائها أيضاً خيطان لا يزال فيها من نول الرغبة رحيق: «ورغبة مبحوحة الخيطان حين ترغب». ولا شيء يمنع أنثى عثمان من أن تكون صخّابة الجسد والروح في آن. فهي مثقلة الروح ببياض الثلج على أناقة بلبل ترك على الزهر رفّة جناح: «نقيّة كالثلج إذ تبوسه أشعّة القمر/ أنيقة كبلبل يمرّغ الجناح في الزّهر»... وفي ساحة المرأة يتتوّج عثمان ببخور النسّاك ويتنازل عن شبابه، والحياة، وقساوة الشريعة: «سمراء يا فراشة النسّاك في الصوامع/ يا وردة مجروحة المدامع/ أفديك بالشباب/ بالحياة/ بالخلود/ بالشرائع». وكلّ ذلك ثمن ليلة تصير عمراً حيث النسيان يغضّ الطرف عن حبيبين في سرير: «لليلةٍ يلفّنا النسيان في المضاجع».في «قمر على بيت الفرزدق» يتجلّى محمود عثمان شاعر حداثةٍ لم يمنعها وزن وقافية من أن تكون حداثة طاعنة في الأصالة.جدي والخيل... والشاميبدو عثمان مشدوداً إلى أهل بيته بشرايين تعصف فيها العاطفة، وقصيدة «جدّي» بعضٌ من هذا العصف. فجدّ الشاعر لم يعبر الموت إنّما روحه في حنجرة الشحرور، والرحيل نور على جبينه: «جدّي هناك وحلّق الشحرور/ هل مات أم وشّى الجبين النّور؟»، وفي ذاكرة الحفيد، المؤرِّخ عاطفته بالقوافي، سرير يطلّ من حريره نجم ويفلت جناح عصفور: «ما زلتُ أذكره وفوق فراشه/ قططٌ تنام وأنجمٌ وطيورُ»... وإذا كان للصباح يقظة في عيون الناس، فجدّ عثمان زاد الصباح عينيه إغماضاً فبكته الشمس زائرة: «وكأنّ عاجَلَه الصباح بصفعة/ فحنَتْ عليه الشمس وهي تزور»... ولا يغيب عثمان الرثّاء عن قصائده، رثاء الخيل والشام وبغداد وهو العارف أنّ الخيل العربيّة بألف خير وخيل، والمشكلة هي في الفرسان: «يا وارث الخيل والبيداء ساهمة/ لم تجبُن الخيل بل فرسانُها جبُنوا»... ومع الاحتجاج على همّة الفرسان والدعوة إلى استرجاع مهرجان الصهيل، يسمو عثمان إنساناً ويعلن أنّ العداوة نهر دم يجرّ نهراً، وعليه فإنّ الصفح ذروة الانتصار: «شريعة الحبّ في الدنيا شريعتُنا/ وحكمة الصّفح عن أعدائنا وطن».