الاتحاد الأوروبي والفرصة التركية
يمثل إحياء الديمقراطية في تركيا فرصة مثالية بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي لإعادة تنشيط علاقاته بالبلاد، فهو الشريك التجاري الرائد لتركيا وأحد أكبر المستثمرين لديها، وكان لفترة طويلة يعتبر تركيا حليفاً مستقراً في منطقة متقلبة.
كانت الانتخابات العامة التركية في يونيو بمثابة رسالة قوية: فالديمقراطية في تركيا لا تزال سالمة، فرغم بعض الشكاوى حول الشفافية أثناء الحملة الانتخابية، كانت الغلَبة للديمقراطية، حيث أقبل 86% من الناخبين المؤهلين على صناديق الاقتراع، وهو معدل نادراً ما نشهده في أوروبا، وينبغي لبقية العالم- وخاصة الاتحاد الأوروبي- أن ينتبه إلى هذه الحقيقة.فحرم المواطنون الأتراك باستخدام أصواتهم حزب العدالة والتنمية الحاكم من الأغلبية المطلقة التي يحتاج إليها لتعديل الدستور، وعلاوة على ذلك من خلال إعطاء حزب الشعب الديمقراطي- الذي يجمع بين الأقلية التركية المهمشة لفترة طويلة في البلاد وغيرها من المجموعات- أكثر من 10% من الأصوات، تمكن الحزب من دخول البرلمان للمرة الأولى، مع التمثيل لمختلف أنحاء البلاد لا المناطق ذات الأغلبية التركية فقط، وما عزز من انتصار التعددية فوز الأقليتين العلوية والمسيحية بتمثيل برلماني أكبر، وسيُمَثَّل الأزيديون والغجر لأول مرة في البرلمان.
ومن المرجح أن تخلف هذه التشكيلة البرلمانية تأثيراً كبيراً على السياسة الخارجية التركية، التي واجهت تحديات خطيرة في السنوات القليلة الأخيرة، فمع اشتداد الصراعات الإقليمية أصبح هدف السياسة الخارجية المركزي للبلاد، والمتمثل بضمان «انعدام المشاكل تماما» مع الجيران، بعيد المنال، والواقع أن السياسات التي انتهجتها تركيا، وخصوصا في التعامل مع سورية ومصر، لم تكن مرضية للبلدان ذات الأغلبية السُنّية في المنطقة ولا للغرب.ولعل الأمر الأكثر أهمية هو أن السياسة الخارجية التي انتهجتها حكومة حزب العدالة والتنمية واجهت انتقادات كبيرة من القوى المحلية، والتي أصبحت الآن في موقع أقوى يسمح لها بمحاولة تغيير هذه السياسة، وهي النتيجة التي ستحدث بصرف النظر عن تمكن حزب العدالة والتنمية في نهاية المطاف من تشكيل ائتلاف أو حكومة أغلبية أو عجزه عن ذلك، وسيكون لزاماً على اتجاه التغيير أن يمثل التوجهات المفضلة لدى مختلف الأحزاب.على سبيل المثال، يعارض حزب الشعب الجمهوري الذي ينتمي إلى يسار الوسط التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة، ويدعو تركيا بدلاً من ذلك إلى إعادة تأسيس علاقات طيبة مع بلدان المنطقة، بما في ذلك سورية، وعلى النقيض من ذلك، احتج حزب الشعب الديمقراطي ضد فشل حكومة حزب العدالة والتنمية السابقة في التدخل عندما حاصر تنظيم الدولة الإسلامية مدينة كوباني (عين العرب) العام الماضي.ومن جانبه، ينتقد حزب الحركة القومية اليميني القرارات التي اتخذتها إدارة حزب العدالة والتنمية للتنديد بالحكومة المصرية الحالية، بزعم أن هذه الخطوة تسببت بشكل مباشر في القضاء على نفوذ تركيا لدى مصر، والآن يؤكد الحزب أن تركيا لابد أن تعمل على الدفاع عن سلامة أراضي جيرانها في المنطقة.ووسط كل هذه الشكوك هناك أمر واحد واضح: هو أن تركيا لا تستطيع أن تتحول إلى الداخل، والواقع أنها بوصفها قوة إقليمية فإن لديها مسؤولية تتمثل بالعمل على تخفيف التوترات وتشجيع حل الصراعات، ولديها أيضاً مصلحة وطنية طويلة الأمد في زيادة الاستقرار الإقليمي، خصوصاً أن هذا من شأنه أن يساعد في وقف موجة اللاجئين- الذين بلغ عددهم بالفعل 2 مليون لاجئ- التي تتدفق إلى البلاد، فضلاً عن فتح المزيد من الفرص التجارية في الجوار. ويمثل إحياء الديمقراطية في تركيا فرصة مثالية بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي لإعادة تنشيط علاقاته بالبلاد، فالاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الرائد لتركيا وأحد أكبر المستثمرين لديها، وكان لفترة طويلة يعتبر تركيا حليفاً مستقراً في منطقة متقلبة، والآن يشكل تصعيد الحرب والعنف الطائفي، الذي أصبح مزمنا، تهديداً لكل من تركيا وأوروبا.في هذا السياق، ستخدم العلاقات المتجددة مصالح الجانبين، وبوسع الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال أن يوفر الدعم الدبلوماسي لتركيا في تعاملها مع جيرانها والمعونات الإنسانية لمساعدة اللاجئين، ولأن الشرق الأوسط الأكثر استقراراً سيرسل عدداً أقل من اللاجئين والإرهابيين عبر حدودها، فإن الحافز قوي لدى أوروبا لتوفير مثل هذا الدعم.الواقع أن إلحاح هذا الوضع يتطلب تجاوز العلاقة الثنائية لكل المناقشات الضيقة حول انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ففي ضوء المقاومة الواسعة النطاق لأي توسع آخر للاتحاد الأوروبي في الوقت الراهن، ستتحرك عملية الانضمام ببطء شديد بلا أدنى شك، وبالتالي فإن الهدف لابد أن يكون إيجاد سبل جديدة وأكثر فعالية للتعاون الذي يتجنب القضايا والنزاعات التي أعاقت مفاوضات الانضمام.هذا لا يعني أن عملية الانضمام لا بد أن تُهجَر، بل ينبغي بدلاً من ذلك فتح قنوات أخرى أكثر فعالية للتعاون بالتوازي مع عملية الانضمام.ولعل نقطة الانطلاق الجيدة تتمثل بتنظيم اجتماع بين أعضاء البرلمانات الأوروبية والبرلمان التركي، وينبغي لزعماء أوروبا أيضاً أن يراقبوا عن كَثَب إمكانية تنقيح السياسة الخارجية التركية، واغتنام الفرص لإعادة تنشيط الحوار الثنائي حول قضايا الاهتمام المشترك، وسيتطلب هذا اجتماعات لاحقة عالية المستوى على فترات منتظمة، من أجل التوصل إلى اتفاق بشأن إجراءات مشتركة محددة في التعامل مع التحديات الملحة.إنها الفرصة المناسبة الآن لتعزيز العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، ولابد من اغتنامها، ويتطلب تحقيق هدف تعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط أن يعمل الجانبان معا، ولا ينبغي لأوروبا إذاً أن تهدر هذه الفرصة أبدا.* خافيير سولانا | Javier Solana ، زميل متميز لدى مؤسسة بروكنجز، ورئيس مركز إيساد العالمي للاقتصاد والجغرافيا السياسية (ESADEgeo).«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»