«تُبشّرنا» الحكومة، من فترة إلى أخرى، بموضوع العجز الذي تعانيه الميزانية العامة للدولة على طريقة المثل الشعبي «جاك الذيب جاك وليده»! فأحيانا «تزف لنا بُشرى» نهاية «دولة الرفاهية»، حيث إن «السكين قد وصلت إلى العظم» كما تقول، وهذا في قاموس الحكومة معناه إلغاء منظومة الدعم الاجتماعي المتعلق بالسلع والخدمات الضرورية مثل التعليم، والصحة، والإسكان، والخدمات الاجتماعية الأساسية، وأحيانا أخرى «يُبشروننا» بقرب رفع أسعار الكهرباء، والماء، والبنزين، وزيادة الرسوم الحالية أو فرض رسوم جديدة على الخدمات العامة مع استحداث ضريبة القيمة المضافة (ضريبة غير مباشرة على الدخل يدفعها المُشتري للحكومة بدلا من البائع).
والمؤسف أن جميع ما «تُبشرنا» به الحكومة هو سياسات وإجراءات ضد أصحاب الدخول المتوسطة والمحدودة، ولا تمسّ كبار الأثرياء وأصحاب الدخول المرتفعة (لم تتطرق تصريحات الحكومة ومذكراتها المالية، على سبيل المثال، إلى ضريبة الأرباح الرأسمالية الناتجة عن التعامل في سوق الأوراق المالية، أو الضريبة العقارية)، وهو الأمر الذي سيترتب عليه في المدى المنظور سحق الفئات الوسطى، وزيادة معاناة الطبقة الفقيرة، أي اتساع الفوارق الطبقية في المجتمع، وذلك على الرغم من أن معظم المواطنين لا ناقة لهم ولا جمل بقضية العجز المالي، فلا هم يشاركون مشاركة حقيقية في إدارة المالية العامة للدولة، ولا سلطة لهم البتّة على توجهاتها العامة وانحيازها الاجتماعي، فضلا عن أنهم ليسوا مسؤولين عن الفساد السياسي الذي يترتب عليه استنزاف الأموال العامة واستخدامها في غير أغراضها المشروعة، واستشراء الفساد المالي والإداري في أجهزة الدولة ومؤسساتها، فالمسؤولية بقدر السُلطة.لقد ذكرنا غير مرة أن معالجة عجز الميزانية العامة للدولة بشكل عادل لا تتم من خلال الاستمرار في الانحياز الاجتماعي الحالي الذي تعكسه أولويات الميزانية العامة للدولة وتوجهاتها، وهو الأمر الذي يعني، كما هو واضح حاليا من تصريحات وزير المالية والمذكرات الحكومية التي تنشرها وسائل الإعلام، تحميل غالبية المواطنين تبعات سياسات اقتصادية فاشلة، وقرارات منحازة لم يكن لهم دور في صياغتها وتنفيذها.إن مواجهة العجز المالي تحتاج، أول ما تحتاج، إلى توافر الإرادة السياسية لعملية الإصلاح الاقتصادي الشامل، ومحاسبة من تسبب، خلال السنوات الماضية، في هدر الثروة الوطنية واستنزافها، وهذا يتطلب حزمة إصلاحات سياسية وديمقراطية تُوسّع قاعدة المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات العامة، ورسم السياسات، وتحمُّل النتائج المترتبة عليها، حيث إنه لا إصلاح اقتصادياً في ظل تخلُّف المنظومة السياسية وفسادها. أضف إلى ذلك ضرورة التخلي عن عملية استنساخ نماذج اقتصادية نيوليبرالية متوحشة نرى نتائجها الكارثية حاليا في اليونان وإسبانيا وتونس ومصر، ثم التركيز، عوضا عن ذلك، على صياغة سياسات اقتصادية-اجتماعية عادلة ومتوازنة يأتي في مقدمتها وضع نظام ضرائب تصاعدية على الدخل والأرباح، مع الأخذ في عين الاعتبار، كما سبق أن ذكرنا، أنه «لا ضرائب من دون تمثيل».
مقالات
عجز الميزانية العامة... «جاك الذيب جاك وليده»!
03-08-2015