أوروبا الحاكم المستبد المتردد
في الجزء الافتتاحي من هذه المذكرة طرحنا المحور التالي:"تبدو الأسئلة المطروحة اليوم أمام الأوروبيين بسيطة بقدر تعقيد السياسة بحد ذاتها: هل تستدعي هذه اللحظة من الأزمة العامة مقداراً أكبر أو أقل من التكامل؟ وهل ينجح الاتحاد الأوروبي في المضي قدماً أم أنه سيعلق وسط معمعة مشتعلة من الحركات القومية؟ وهل ينجح الوسط في الصمود، في حين يبدل الناخبون المستاؤون ميزان القوى الوطني خلال الانتخابات تلو الأخرى؟ وهل تتفوق البراغماتية على الحركات المتشددة المحلية؟ وهل يجب أن تتفوق عليها؟".
بالنسبة إلى مَن يعربون عموماً عن إعجابهم بالمؤسسات الأوروبية (مقرين على الأقل بأنها لعبت دوراً في الحفاظ على سلام لم يُعتبر مضموناً البتة في قارة اعتادت الحروب)، من الصعب سبر غور هذا السؤال الأخير بصراحة. يعتقد معظم القادة السياسيين الرئيسيين في 28 عاصمة والقيادة التي تتخطى السلطات الوطنية في بروكسل أن التفكير في هذه المسألة غير وارد البتة، لكن مؤيدي الوحدة الأوروبية يدفعون على الأرجح ما وُصف سابقاً بالنقص الديمقراطي في أوروبا إلى الغياب المطلق الظاهري.لحظة أسى في البرتغالكيف يتجلى ذلك؟ يفوز حاكم ميال إلى التقشف في أمة صغيرة في أوروبا الجنوبية بغالبية الأصوات في الانتخابات، إلا أنه يحظى بنحو 28 معقداً فقط في البرلمان، فتبدأ الإشاعات بالانتشار عما إذا كانت المعارضة (التي تشمل مجموعة منقسمة عادةً من الأحزاب اليسارية عثرت فجأة على هدف موحد لمقاومة السياسات الأوروبية) أفضل مَن يستطيع تأليف حكومة تستمر. يختار الرئيس رئيس الوزراء الحالي ليشكل حكومة، متبعاً القانون بحذافيره، علماً أن هذا الأخير يعطي الفائز بالعدد الأكبر من الأصوات الفرصة الأولى في تشكيل ائتلاف، ولكن خلال هذه العملية، يقدِم الرئيس على خطوة إضافية، معلناً أن اليسار يجب ألا يتدخل في الحكومة، بغض النظر عن نتيجة التصويت. هذا ما حدث في البرتغال خلال شهر أكتوبر، وهذه كانت كلمات الرئيس البرتغالي أنيبال كوفاكو سيلفا: "أعلن كوفاكو أن حكومة يسارية لن تضمن استقرار البلد، وديمومته، ومصداقيته". وأضاف: "طوال 40 سنة من الديمقراطية لم تعتمد الحكومات مطلقاً في البرتغال على دعم القوات السياسية الأوروبية المناهضة للقوى السياسية الأوروبية".تعكس هذه التطورات رأي فولفغانغ شوبل حين أعلن: "لا تبدّل الانتخابات شيئاً"، لكن وزير المالية الألماني كان يقول على الأقل إن من الضروري موازنة الانتخابات بما يتوافق مع القواعد، لكن كافاكو سيلفا روّج بذكاء لخياراته السياسية الخاصة بالإشارة إلى حماية مكانة البرتغال في الاتحاد.تعاني أوروبا مشكلة في صورتها قبل أن تواجه أزمة وجودية، ويُفضل السياسيون الوطنيون استخدام الاتحاد كبش محرقة يلقون عليه مسؤولية إخفاقاتهم السياسية، في حين ينسبون إلى أنفسهم الفضل عندما تستفيد شعوبهم من البرامج التي تمولها أوروبا أو يستغلون تشريعات الاتحاد الأوروبي للترويج لمصالحهم سراً، لنتأمل مثلاً عجز بريطانيا عن توضيح كم من التنظيمات، التي تتعرض اليوم للانتقاد لعرقلتها التجارة الوطنية، وحسبما يُفترض طورها السياسيون الوطنيون لتتخطى مطالب الاتحاد الأوروبي باتباع تصاميمهم الخاصة لكبح القطاعات الوطنية، علماً أن هذه العملية تُدعى "الطلاء بالذهب".في الماضي، كانت أوروبا أكثر تواضعاً لتنسب إلى نفسها الفضل في التقدم، لكن وجودها صار اليوم أكثر وضوحاً، ورغم ذلك تنقل غالباً صورة أوروبا الحاكم المستبد، ففي البرتغال مثلاً أعلن سياسي وطني أن الدفاع عن الاتحاد يشكل سبباً للحكم بما يخالف روح القانون الوطني، وفي اليونان حققت أوروبا انتصاراً ملتوياً، معيدة ألكسيس تسيبراس إلى أثينا بصفته المؤدي التقليدي للإصلاحات التي تفرضها برلين وبروكسل، أضف إلى كل هذا الجدل الأخير الذي نشأ حول تصويت الأكثرية المؤهلة ضمن إطار أزمة اللاجئين.فقدت أوروبا السيطرة على مجريات الأحداث، ونجحت في الوقت الراهن على الأقل في كبح المعارضة من الدول الواقعة على الأطراف، مثل اليونان والبرتغال، لكن الانتخابات باتت وشيكة في إسبانيا، التي تشكل رابع أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، كذلك ستصوت أيرلندا في الربيع، وفي إيطاليا يميل ماتيو رنزي، رئيس الدولة الإصلاحي الأكثر حماسة في القارة اليوم إلى تبني موقف مواجهة مع أوروبا مع تراجع شعبيته. وفي السنتين التاليتين سيُسمع الناخبون في قلب أوروبا بحد ذاته، مع اقتراب موعد إجراء الاستفتاء البريطاني بشأن الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن الانتخابات الفرنسية والألمانية عام 2017.برهنت أوروبا أنها بارعة في تجاوز الأزمات، وقد نجحت في ذلك بالحكم من الأعلى من خلال سلسلة من الصفقات التي تعقدها النخب، لكن الاتحاد الأوروبي يجد نفسه اليوم أسير حملة يُضطر فيها إلى توضيح أفعاله وتبرير نفسه، لذلك عليه أن يقدم أداء أفضل.* جويل وايكينانت