شيء مهم ضاع منا في هذه الأيام، إنه الحلم والرأفة وحسن الحوار ورقيق الكلام، لقد أصبح يعتقد أن الناشط هو ذاك الذي يتحدث ليلاً ونهاراً على "تويتر"، وأن الناشط الجريء القوي هو ذاك الذي يشيع ضرباً وزجراً وإيذاءً في الناس، أصبح "الموديل" استخدام السخرية القاسية، والضغط حيث مواقع الألم، والإمعان في نبش الجراح، وكأنك لا تكون ناقداً "كول" إلا إذا أوجعت القلوب وأخجلت المشاعر وعزلت الآخر. في مكان ما تاه منا حسن الحوار وجميل الكلام، أصبح "الضغاط" كما يسميه شباب اليوم هو التصرف المميز الذي يضع الشخص في خانة المشاهير فيزداد متابعوه ومحبوه وإن كان على حساب آلام الآخرين وأحزانهم.
بلا شك فإن أسلوب السخرية هو من أهم أساليب النقد الفاعل، وبلا شك أيضاً فإن انحدار الأوضاع يدفع أحياناً إلى النقد الحانق الذي يجب أن يرقى في قسوته إلى قسوة الأوضاع وأن يهبط إلى مستوى ترديها، لكن في المجتمع الصحي يكون هناك شيء من التوازن، قليل من القساة كثير من الرحماء، قليل من الساخرين كثير من الجادين، قليل من المهينين المؤذين كثير من العاملين الحقيقيين نحو التغيير، فالمجتمع يحتاج النوعين، لكنه يحتاج أن يكون النوع الرحيم الجاد هو السائد مطعماً بالقليل الساخر المؤذي، وعندما تنعكس الآية ينقلب المجتمع على رأسه فتتدحرج مشاعر أعضائه في غياهب القسوة، ويغيب تواصلهم الإنساني في جحيم الأذى اللساني الذي يصبح هو السائد وهو "الكول".وهنا لابد من إيضاح نقطتين: أولاهما أنه مهما بلغت القسوة ومهما بلغ انحدار أسلوب التعبير عنها، فهما يدخلان في حرية الرأي، يبقيان رأياً ولو ساء، رأيا لابد أن نوسع له الصدر وإن لم نحترمه، بل رأيا نحتاجه لأن يوسعنا ألماً حتى نبقى قريبين من الواقع، فشباب مثل المغردين بويابس وبو عسم وغيرهم ممن يمتهنون القسوة وإيذاء الآخرين للتسويق لآرائهم هم في الواقع يؤدون خدمة، فيبقون المفسدين على أطراف أصابعهم حذرين من تعليقاتهم، ولمن يسوق دوماً حجة أنني على هذا الرأي لأنني لم أصب بطلقة مهينة أقول إنه على سبيل المثال (وأنا هنا أسوق مثالا مخففا) للشاب بو عسم مقال وأكثر من تغريدة إهانة وتجريح في شخصي دون سبب أعلمه، ففي تغريدة له في 24 نوفمبر 2013 كتب: "مدير إدارة قناة العدالة السابق التابعة (محمود حيدر) يشتكي ضدي بقضية الإساءة (للملك عبدالله) أنا خايف ابتهال الخطيب تشتكي علي بـازدراء الأديان!" وفي تغريدة أخرى بتاريخ 25 يناير 2012 كتب: "أحد "الشيبان" يقول: يا محمد السجن ما هو عيب بس تكفه إن كان اسمك معهم لا تنسجن مع ابتهال الخطيب وتفضحنا... تعال حلها". تلك أمثلة يسوؤني أن أسوقها ويؤلمني أن أنشر إهانتها وتلميحاتها، ولكنني أردت أن أثبت نقطة مهمة حول حرية الرأي، أنا لا أعرف هذا الشاب، ولا أعتقد أني قابلته أو بادلته الحديث في يوم، كما أنني أرى تلميحاته مهينة مسيئة ترمي لإضحاك بعض الناس بإيذاء آخرين، إلا أنه وبدون أدنى شك لا يحق لي الاعتراض عليها وإن كنت لا أحترمها، ليس لي أن أسكتها وإن كنت أنزعج من ضوضائها، فهي رأي، وللرأي قدسية تعلو حتى على كرامات البشر، نعم، تعلو حتى على الكرامة.لا تعلو حرية الرأي سوى الحقيقة، فحرية الرأي تقف عند حد الاتهام كذباً، غير ذلك، كله رأي وكله مقدس مهما رخص وهان أسلوبه، اليوم بو عسم سجين رأي، ليس مهما إن كان رأيا صالحا أو طالحا، راقيا أو منحدرا، المهم أنه رأي، وأن صاحبه سجن من أجله، وهذه وحدها تكفي لأن تحوله إلى بطل، وتحولنا إلى مدافعين شرسين عنه وإن اختلفنا في الرأي معه.ولقد سبق لي أن كتبت أكثر من مقال في بو عسم الشاب سجين الرأي مع حيازتي التامة لإهاناته، ليس لأنني صاحبة قلب كبير، ولا لأنني ملائكية التوجه، لكن لأنني أنانية خوافة، أنانية تجاه حريتي، خائفة من فقدها، أحتمل الرأي وإن انطوى على الإهانة في سبيل حرية رأيي أنا، أي من أجل مصلحتي أنا، وسأكون أنا الرابحة بكل تأكيد.وأما نقطتي الثانية فهي حول سبب نقدي، وليس بأي حال اعتراضي، على الصوت الساخر اللاذع، لست هنا أقول بتجنب هذا الصوت رحمة بالمنتَقد ولا احتراماً له، فلربما هو لا يستحق احتراماً ولا رحمة، ولكنني أقول بحسن الحديث وأدب السخرية ورأفة النقد لأنها تؤثر إيجاباً على المتلقي، لأنها تخلق جواً عاماً يسود المجتمع بأفراده، ففي حين أن الصوت الساخر اللاذع مطلوب، فإن انتشاره وعموميته وسيادته تؤذي المجتمع وتغلظ قلوب أصحابه وتقطع حبال المودة والتواصل الرحيم بينهم. يمكنك أن تكون "كول" دون أن تكون لاذعا، يمكنك أن تكون محبوباً مرغوباً وأنت أقل قسوة وأكثر رحمة، أقل عنفاً وأكثر رأفة، أقل تطلعاً للانتشار وأكثر إقبالاً على التغيير. للكلمة الطيبة مفعول السحر، فقدمها على ما عداها.*يغنيك محموده عن النسب (علي بن أبي طالب)
مقالات
«كن ابن من شئت واكتسب أدباً» *
22-06-2015