محنة القرار في البنك المركزي الأوروبي
تحسنت الظروف الاقتصادية والمالية في أوروبا، ولكنها لا تزال بعيدة عن المتانة والرسوخ، كما أن النمو يظل بطيئاً وغير قوي بما يكفي للتغلب على الجيوب المتواصلة من الديون المفرطة التي تثقل دولاً معينة، وتظل معدلات البطالة عالية بقدر يثير القلق في بعض الدول.
يستحق رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي الشفقة حقاً، فقد واجه خلال الاجتماع الأخير المخصص لصنع سياسة البنك محنة صعبة، مع حث الأسواق له على مزيد من الخفض في معدلات الفائدة، فضلاً عن دفع بعض سندات الأساس المهمة بقدر أكبر نحو حصيلة سلبية، وفي حال مقاومته لتلك الضغوط فإن ماريو دراغي سيخاطر بتفكيك فقاعة الثقة التي أوجدها البنك المركزي، والتي رغم كونها غير مثالية فهي عنصر رئيسي بالنسبة الى استراتيجية النمو في القارة الأوروبية، ولكن إذا اختار استيعاب مطالب الأسواق فإنه قد يضاعف من خطر الاستقرار المالي في المستقبل الذي برز بجلاء في مراجعة البنك المركزي الأوروبي للاستقرار المالي في الآونة الأخيرة.لقد تحسنت الظروف الاقتصادية والمالية في أوروبا، ولكنها لا تزال بعيدة عن المتانة والرسوخ، كما أن النمو يظل بطيئاً وغير قوي بما يكفي من أجل التغلب على الجيوب المتواصلة من الديون المفرطة التي تثقل دولاً معينة، كما تظل معدلات البطالة عالية بقدر يثير القلق في بعض الدول، وخاصة بالنسبة إلى شريحة الشباب والعاطلين في الأجل الطويل.
وتركت الهجمات التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس في الآونة الأخيرة أثرها على الناتج المحلي الاجمالي في فرنسا كما عززت ضغوط الانكماش، وضاعف من هذا الضعف في ميدان الاقتصاد التلويح بإرادة سياسية لإتمام مشروع التكامل الاقتصادي التاريخي في المنطقة الذي يواجه تحديات من خلال الاختلاف حول كيفية التعامل مع أزمة اللاجئين بما في ذلك مسألة الحفاظ على حرية الحدود وفقاً لترتيبات اتفاقية "شينغن".ولم يكن مفاجئاً توقع الأسواق قيام المركزي الأوروبي، باعتباره الكيان الأكثر انخراطاً في الاتحاد الأوروبي في صنع السياسة، بسحب ضمانات اضافية من خلال خفض معدلات الإيداع لديه أو تمديد برنامجه المتعلق بشراء الأسهم على نطاق واسع، والذي سوف يسهم في تحقيق مزيد من تخفيف من شروط السيولة وخفض قيمة اليورو.الخيار الواضحولكن إذا اعتبر المشاركون في السوق أن مثل هذا المسار هو الخيار الواضح فإن الاقتصاديين، بمن فيهم اولئك الذين يعملون في البنك المركزي الأوروبي، يرون الأشياء بصورة مغايرة.المقاربة غير التقليدية في السياسة النقدية التي طبقها العديد من البنوك المركزية حول العالم ما زال عليها تحقيق زيادة مستدامة كبيرة في الأنشطة الاقتصادية بما في ذلك في الولايات المتحدة، حيث تم تطبيق مثل هذه التجربة في السياسة الاقتصادية الكبيرة قبل وقت من تطبيقها في أوروبا، وفي غضون ذلك، توجد مخاوف كبيرة من عواقب غير مقصودة قد تفضي الى أضرار اضافية. تحذير «المركزي الأوروبي»حذر البنك المركزي الأوروبي في مراجعته الأخيرة نصف السنوية للاستقرار المالي من أن المقاربة المتعلقة بالسياسة النقدية التي تبنتها الدول المتقدمة تسهم في "تضارب أسعار الأصول"، ونتيجة لذلك فإن "امكانية حدوث زيادة مفاجئة في الخطر على المستوى العالمي قد أصبحت أشد تأكيداً".وقال التقرير المذكور أيضاً إن خطر حدوث عدم استقرار مالي على صعيد عالمي في المستقبل قد تأكد بقدر أكبر من خلال احتمال الاختلاف في السياسة بين البنوك المركزية المهمة بصورة منهجية، وعلى الرغم من أنه يحافظ على موقف تحفيزي فإن من المتوقع أن يرفع مجلس الاحتياط الفدرالي الأميركي معدلات الفائدة لأول مرة في حوالي عشر سنوات خلال اجتماعة في الشهر الحالي والمخصص لصنع السياسة. ومن خلال اتخاذ مسار مختلف فإن البنك المركزي الأوروبي سوف يضيف الى خطر حدوث تقلبات في معدلات الفائدة والصرف بشكل يمكن أن يحرف الأداء الاقتصادي بما في ذلك في الدول الناشئة.الاعتبارات المتضاربةتبرز هذه الاعتبارات المتضاربة من جديد مدى حرمان أوروبا من أول أفضل ظروف السياسة من خلال خمول المؤسسات الوطنية في صنع السياسة. ومثل غيره من البنوك المركزية، اضطر البنك المركزي الأوروبي الى الاستمرار في حمل أعباء سياسة ثقيلة للغاية ومن دون وجود الأدوات الضرورية لاتمام الهدف المنشود.وعبر مواجهة الاختيار بين خيارين محيرين، من المرجح أن يختار البنك المركزي الأوروبي الذي يقوده ماريو دراغي القيام بمزيد من العمل وليس العكس. ونظراً لأن ذلك يتطلب اتخاذ اجراءات اضافية فإن هذا البنك سوف يبرز الحاجة الى دعم التعافي الاقتصادي في المنطقة، كما سيلاحظ ان أي أخطار تتعلق بالاستقرار المالي يمكن أن تواجه من خلال استخدام سياسات حكيمة ومتعلقة بصورة كبيرة.ومن شأن ذلك، على الأقل، أن يمثل الرسالة التي توجه الى العامة، وخلف أبواب مغلقة، على أي حال، قد يشعر البنك المركزي الأوروبي بالندم على العلاقات غير الصحية التي طورتها البنوك المركزية حول العالم مع الأسواق المالية، وقد جعل هذا الاعتماد الأسواق تفرط في الثقة ازاء قوة البنوك المركزية وقدرتها على الفصل بشكل مستمر بين أسعار الأصول والأساسيات. وبدورها، كانت البنوك المركزية مضطرة الى استخدام فقاعة الثقة هذه بغية الابقاء على زخم الاقتصاد، وإن بدرجة متدنية من التوازن إلى أن يتقدم رجال السياسة للاضطلاع بمسؤولياتهم في الحوكمة الاقتصادية.