لما كانت الليلة التاسعة والعشرون، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما دخلت عند علي بن بكار وسلمت عليه، تحدثت معه سراً وصار يقسم في أثناء الكلام ويحلف أنه لم يتكلم بذلك، ثم ودعته وانصرفت، وكان الرجل صاحب أبي الحسن جوهرجياً، فلما انصرفت الجارية وجد للكلام محلاً فقال لعلي بن بكار: لا شك في أن لدار الخلافة عليك مطالبة، أو بينك وبينها معاملة فسأله: من أعلمك بذلك؟ فقال: علمته من معرفتي بأن هذه الجارية من جواري شمس النهار، وكانت قد جاءتني منذ مدة برقعة منها تطلب فيها عقداً من الجواهر، فأرسلت إليها عقداً ثميناً، فلما سمع علي بن بكار كلامه، اضطرب ثم تمالك نفسه وقال: يا أخي سألتك بالله أن تخبرني بالحقيقة. فقال له الجوهرجي: سأخبرك بكل شيء ولا أخفي عليك سراً، ولكن على شرط أن تخبرني بحقيقة حالك وسبب مرضك. فأخبره علي بن بكار بخبره، ثم قال: والله يا أخي ما حملني على كتمان أمري عن غيرك إلا مخافة الناس.فقال الجوهري لعلي بن بكار: أنا ما أردت اجتماعي بك، إلا لشدة محبتي لك، وشفقتي عليك من ألم الفراق، ولعلي أكون لك مؤنساً نيابة عن صديقي أبي الحسن مدة غيبته، فطب نفساً، وقر عينا. فشكره علي بن بكار على ذلك.

Ad

ثم إن علي بن بكار سكت ساعة من الزمان، وبعد ذلك قال للجوهرجي: أتدري ما أسرتني به الجارية؟ فقال: لا والله يا سيدي. فقال: إنها زعمت أني أشرت على أبي الحسن بالمسير إلى مدينة البصرة، وأنني دبرت بذلك حيلة لأجل عدم المراسلة والمواصلة، فحلفت لها أن ذلك لم يكن، فلم تصدقني ومضت إلى سيدتها وهي على ما هي عليه من سوء الظن.

فقال الجوهري: يا أخي إني فهمت من حال هذه الجارية هذا الأمر، ولكن إن شاء الله تعالى أكون عوناً لك على مرادك.فقال له علي بن بكار: كيف تعمل معها وهي تنفر كوحش الفلاة؟ فقال له: لا بد من أن أبذل جهدي في مساعدتك، وأحتال في التوصل إليها من غير كشف ستر ولا مضرة. ثم استأذن في الانصراف. فقال له علي بن بكار: يا أخي عليك بكتمان السر ثم نظر إليه وبكي وانصرف الجوهرجي بعد أن ودعه.

ثم إن الجوهرجي انصرف من عند علي بن بكار وهو لا يدري كيف يعمل لإسعافه، وفيما هو يسير مفكراً في أمره، رأى ورقة مطروحة في الطريق، فأخذها وقرأ عنوانها فإذا هو «من المحب الأصغر إلى الحبيب الأكبر}، ففتح الورقة وقرأ فيها ما يلي:

«وبعد، فاعلم يا سيدي أنني لم أدر ما سبب قطع المراسلة بيني وبينك، فإن يكن قد صدر منك الجفاء، فأنا أقابله بالوفاء، وإن يكن ذهب منك الوداد، فأنا أحفظ الود على البعاد}.

وما كاد ينتهي من قراءة الورقة، حتى أقبلت جارية شمس النهار وهي تتلفت يميناً وشمالاً، فلما رأت الورقة في يده قالت له: يا سيدي إن هذه الورقة وقعت مني، فلم يرد عليها جواباً، ومشى وهي تتبعه إلى أن وصل إلى داره ودخل والجارية خلفه، فقالت له: يا سيدي رد لي هذه الورقة فإنها سقطت مني، فالتفت إليها وقال: لا تخافي ولا تحزني، ولكن أخبريني بالخبر على وجه الصدق، ولا تخفي شيئاً من أمر سيدتك فعسى الله أن يعينني على قضاء أغراضها ويسهل الأمور الصعاب على يدي.

لما سمعت الجارية كلامه، قالت: يا سيدي ما ضاع سر أنت حافظه، ولا خاب أمر أنت تسعى في قضائه. اعلم أن قلبي مال إليك فأنا أخبرك بحقيقة الأمر لتعطيني الورقة. ثم أخبرته بالخبر كله وقالت: الله على ما أقول شهيد. فقال لها: صدقت، فإن عندي علماً بأصل الخبر. ثم حدثها بحديث علي بن بكار من أوله إلى أخره، واتفقا على أنها تأخذ الورقة وتعطيها لعلي بن بكار، وكل ما يحصل ترجع إليه وتخبره به، فأعطاها الورقة فأخذتها وختمتها كما كانت وقالت: إن سيدتي شمس النهار أعطتها إليّ مختومة فإذا قرأها ورد لي جوابها أتيتك به ثم ودعته وتوجهت إلى علي بن بكار، فوجدته في الانتظار. ولما قرأ الورقة كتب لها الرد فأخذته ورجعت به إلى الجوهرجي حسب الاتفاق، ففض ختمها وقرأها فرأى مكتوباً فيها:

{وبعد، فإني لم يصدر مني جفاء، ولا تركت الوفاء، ولا نقضت عهداً، ولا قطعت وداً، وقد فارقت أسفاً، ولا لقيت بعد الفراق تلفاً، ما علمت قط  بما ذكرتم، ولا أحب غير ما أحببتم، وحق عالم السر والنجوى، ما قصدي غير الاجتماع بمن أهوى، وشأني كتمان الغرام، وإن أمرضني السقام، وهذا شرح حالي والسلام}.

وسيط جديد

لما قرأ الجوهرجي هذه الورقة وعرف ما فيها، بكي بكاء شديداً. ثم إن الجارية قالت له: لا تخرج من هذا المكان حتى أعود إليك، لأنه قد اتهمني بأمر من الأمور، وهو معذور، وأنا أريد أن أجمع بينك وبين سيدتي شمس النهار بأية حيلة، فإني تركتها طريحة الفراش، تنتظر مني رد الجواب.

 ثم مضت إلى سيدتها، وبات الجوهرجي مبلبل الخاطر، فلما أقبل الصباح صلى الصبح وجلس ينتظر قدومها، وإذا بها أقبلت وهي فرحانة إلى أن دخلت عليه فقال لها: ما الخبر يا جارية؟ فقالت: مضيت من عندك إلى سيدتي، ودفعت لها الورقة التي كتبها علي بن بكار فلما قرأتها وفهمت معناها تحير فكرها، فقلت لها: يا سيدتي لا تخشي من فساد الأمر بينكما بسبب غياب أبي الحسن فإني وجدت من يقوم مقامه، وهو أحسن منه وأعلى مقداراً وأهل لكتمان الأسرار. ثم حدثتها بما بينك وبين أبي الحسن وعلي بن بكار، وكيف سقطت تلك الرقعة مني ووقعت أنت عليها، وأخبرتها بما استقر عليه الأمر بيني وبينك.

 تعجب الجوهرجي غاية العجب، ثم قالت له الجارية: إن سيدتي تشتهي أن تسمع كلامك، لأجل أن تؤكد لها ما بينك وبينه من العهد فاعزم في هذا الوقت على المسير معي إليها. لما سمع الجوهرجي كلام الجارية رأى أن الدخول عليها أمر عظيم وخطر جسيم، لا يمكن الشروع فيه ولا القيام به، فقال لجاريتها: يا أختي إني من أولاد العوام، ولست كأبي الحسن، فإنه رفيع المقدار، معروف بالتردد على دار الخلافة، وإذا كانت سيدتك رغبت في سماع حديثي، فينبغي أن يكون ذلك في غير دار الخلافة بعيداً عن محل أمير المؤمنين، لأن جناني لا يطاوعني على ما تقولين. ثم امتنع عن المسير معها، فأخذت تضمن له السلامة، وبينما هما في هذا الكلام، إذ لعبت رجلاه، وارتعشت يداه، فقالت له الجارية: إن كان يصعب عليك الذهاب إلى دار الخلافة، ولا يمكنك المسير معي، فأنا أجعلها تسير إليك، فلا تبرح مكانك حتى أرجع إليك بها. ثم إن الجارية مضت ولم تغب إلا قليلاً وعادت إلى الجوهرجي وقالت له: احذر أن يكون عندك جارية أو غلام، فقال: ما عندي غير جارية سوداء كبيرة السن تخدمني.

فقالت الجارية وأغلقت الأبواب بين جارية الجوهرجي وبينه، وصرفت غلمانه إلى خارج الدار، ثم خرجت وعادت ومعها جارية خلفها، فعبقت الدار من الطيب الذي فاح من شمس النهار، ونهض الجوهرجي قائماً ووضع لها مخدة فمكثت ساعة لا تتكلم حتى استراحت، ثم كشفت وجهها فخيل للجوهرجي أن الشمس أشرقت في منزله. ثم قالت لجاريتها: أهذا الرجل الذي حدثتني عنه؟ فقالت الجارية: نعم فالتفتت إلى الجوهرجي وقالت له: كيف حالك؟ فقال: بخير ودعا لها فقالت: إنك حملتنا على المسير إليك وأن نطلعك على ما يكون من سرنا. ثم سألته عن كيفية اطلاعه على أصل القصة، فأخبرها بما سألته عنه من أول الأمر إلى آخره.

 فتأوهت على فراق أبي الحسن وقالت: أعلم أن أرواح الناس متلائمة في الشهوات، والناس بالناس، ولا يتم عمل إلا بقول، ولا يتم غرض إلا بمعين، ولا تحصل راحة إلا بعد تعب.

بيت اللقاء

قالت شهرزاد: ثم إن شمس النهار قالت للجوهرجي لا تحصل راحة إلا بعد تعب، ولا يظهر نجاح إلا من ذوي مروءة، وقد اطلعتك الآن على أمرنا، وصار بيدك هتكنا وسترنا، ولا زيادة لما أنت عليه من المروءة، فأنت قد علمت أن جاريتي هذه كاتمة لسري، وبسبب ذلك لها عندي مرتبة عظيمة، وقد اختصصتها بأجل أموري، فلا يكن عندك أعز منها، واطلعها على أمرك وطب نفساً فأنت أمن مما تخافه من جهتنا، وما يسد عليك موضع إلا فتحناه لك، وسأتيك برسائلي إلى علي بن بكار وتكون أنت الواسطة في التبليغ بيني وبينه.

 ثم إن شمس النهار قامت وهي لا تستطيع القيام، فمشى الجوهرجي بين يديها حتى وصلت إلى باب الدار، ثم رجع وقعد في موضعه بعد أن نظر من حسنها ما بهره، وسمع من كلامها ما حير عقله، وشاهد من ظرفها وأدبها ما أدهشه.

ثم استمر يتفكر في شمائلها حتى سكنت نفسه وطلب الطعام فأكل ما يمسك رمقه، ثم غير ثيابه وخرج من داره، وتوجه إلى دار علي بن بكار، فلاقاه غلمانه ومشوا بين يديه إلى أن وصلوا إلى سيدهم، فوجده ملقياً على فراشه، فلما رأى الجوهرجي قال: أبطأت عليّ فزدتني هما على همي. ثم صرف غلمانه وأمر بغلق أبوابه، وقال له: والله ما غمضت عيني من يوم فارقتني، فإن الجارية جاءتني بالأمس ومعها رقعة مختومة من عند سيدتها شمس النهار.وحكى له جميع ما وقع له معها، ثم قال: لقد تحيرت في أمري وقل صبري، وكان لي أبو الحسن أنيسا لأنه يعرف الجارية.

لما سمع الجوهرجي منه هذا الكلام، بكى لبكائه، وأخبره بما جرى له مع الجارية منذ أن فارقه، فصار ابن بكار يصغي إلى كلامه، وكلما سمع منه كلمة يتغير لون وجهه من صفرة إلى احمرار، ويقوي جسمه مرة، ويضعف أخرى، فلما انتهى إلى آخر الكلام بكى ابن بكار وقال له: أنا يا أخي على حال هالك، فليت أجلي قريب، وأسألك من فضلك أن تكون ملاطفي في جميع أموري، إلى أن يقضي الله ما يريد، وأنا لا أخالف لك قولا.

فقال الجوهرجي: لا يخمد عنك هذه النار إلا الاجتماع بمن شغفت بها، ولكن في غير ذلك المكان الخطير، ويكون الاجتماع عندي في بيت بجانب بيتي الذي جاءتني فيه الجارية هي وسيدتها، وهو الموضع الذي اختارته لنفسها والمقصود اجتماعكما فيه.

فقال علي بن بكار افعل ما تريد والذي تراه هو الصواب قال الجوهري: فأقمت عنده تلك الليلة أسامره إلى أن أصبح الصباح.

اللصوص يهجمون

قالت شهرزاد: ثم إن الجوهري ذكر: لما أقبل الصباح، صليت الصبح، وخرجت من عنده إلى منزلي، فما هو إلا قليل حتى جاءت الجارية، وسلمت عليّ فردتت عليها السلام، وحدثتها بما كان بيني وبين علي بن بكار، فقالت لي: اعلم أن الخليفة انصرف من عندنا، ومجلسنا لا أحد فيه، وهو ستر لنا وأحسن. فقلت لها: كلامك صحيح، ولكنه ليس كمنزلي هذا، فإنه أستر لنا وأليق بنا. فقالت الجارية: إن الرأي ما تراه، وأنا ذاهبة إلى سيدتي لأخبرها بما ذكرت وأعرض عليها ما قلت. ثم توجهت إلى سيدتها وعرضت عليها الكلام وعادت إلى منزل الجوهرجي وقالت له: إن سيدتي رضيت بما قلته. ثم أخرجت من جيبها كيساً فيه دنانير وقالت : إن سيدتي تسلم عليك وتقول لك خذ هذا واقض لنا به ما نحتاج إليه فأقسمت أني لا أصرف شيئاً منه.

أخذته الجارية وعادت إلى سيدتها، وتوجهت أنا إلى داري الثانية، فنقلت إليها ما يحتاج إليه الأمر من الفراش والآلات والأواني الفضية والصينية وأطايب المأكل والمشرب، فلما حضرت الجارية ونظرت ما فعلته أعجبها، وأمرتني بإحضار علي بن بكار، فقلت: ما يحضر به إلا أنت فذهبت إليه وأحضرته على أتم حال، وقد راقت محاسنه. فلما جاء قابلته ورحبت به ثم أجلسته على مرتبة تصلح له، ووضعت بين يديه شيئاً من المشموم في بعض الأواني وصرت أتحدث معه نحو ساعة من الزمان، ثم إن الجارية مضت وغابت إلى بعد صلاة المغرب، ثم عادت ومعها شمس النهار ووصيفتان لا غير، فلما رأت علي بن بكار ورأها، سقطا على الأرض مغشياً عليهما، واستمرا كذلك ساعة ولما أفاقا جلسا يتحدثان بكلام رقيق.

بعد ذلك، استعملا شيئاً من الطيب، ثم إنهما صارا يشكران صنعي معهما فقلت لهما: هل لكما في شيء من الطعام؟ فقالا: نعم. فأحضرت شيئاً من الطعام، فأكلا حتى اكتفيا ثم غسلا أيديهما، ونقلتهما إلى مجلس آخر وأحضرت لهما الشراب فشربا وسكرا. ثم إن شمس النهار قالت لي: يا سيدي أكمل جميلك وأحضر لنا عوداً أو شيئاً من آلات الملاهي حتى نكمل حظنا في هذه الساعة. فقلت: على رأسي وعيني. ثم قمت وأحضرت عوداً، فأخذته وأصلحته، ووضعته في حجرها وضربت عليه ضرباً بليغاً وأخذت في غناء الأشعار حتى حيرت الأفكار، وكاد المجلس أن يطير من شدة الطرب.

ثم إن الجوهرجي تركهما في تلك الدار، وانصرف إلى دار سكناه، وبات فيها إلى الصباح، فنهض وصلى فرضه وشرب القهوة، وجلس يفكر في المسير إليهما في داره الثانية. فبينما هو جالس إذ دخل عليه جاره وهو مرعوب وقال: أخي ما هان عليّ الذي جرى لك في دارك الثانية فسأله: أي شيء جرى؟ فقال:  إن اللصوص الذين جاؤوا إلى جيراننا بالأمس وقتلوا فلاناً وأخذوا ماله قد رأوك وأنت تنقل حوائجك إلى دارك الثانية، فانسلوا إليها ليلاً وأخذوا ماله قد رأوك وأنت تنقل حوائجك إلى دارك الثانية، فانسلوا إليها ليلاً وأخذوا ما عندك وقتلوا ضيوفك، قال الجوهرجي: فقمت أنا وجاري، وتوجهنا إلى تلك الدار فوجدناها خالية ولم يبق فيها شيء فتحيرت في أمري وقلت: أما الأمتعة فلا أبالي ضياعها، وإن كنت قد استعرت بعضها من أصحابي لأنهم عرفوا عذري بذهاب مالي. أما علي بن بكار ومحظية أمير المؤمنين فأخشى أن يشتهر أمرهما فيكون ذلك سبب هلاكي.

ثم إن الجوهرجي التفت إلى جاره وقال له: أنت أخي وجاري وتستر عورتي، فما الذي تشير به علىَّ من الأمور؟ فقال الرجل: أشير عليك أن تتربص فإن الذين دخلوا دارك وأخذوا متاعك قتلوا جماعة من دار الخليفة وجماعة من دار صاحب الشرطة، والبحث الآن يجري عنهم في جميع الطرق، وقد يقبض عليهم فتبلغ مرادك بغير سعي منك فلما سمع الجوهرجي هذا الكلام رجع إلى داره التي هو ساكن بها.

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.