فجر يوم جديد : {البريء}
دُعيت للمشاركة في استفتاء لاختيار أفضل عشرة أفلام سياسية في السينما المصرية فاخترت، حسب الترتيب الزمني لسنة الإنتاج: «لاشين» (1938)، «شيء من الخوف» (1969)، «العصفور» (1974)، «على من نطلق الرصاص» (1975)، «الكرنك» (1975)، «عودة الابن الضال» (1976)، «المذنبون» (1976)، «البريء» (1986)، «زوجة رجل مهم» (1988) و»ليلة سقوط بغداد» (2005) وأسفر الاستفتاء عن فوز قائمة من 13 فيلماً بدلاً من 10 كان على رأسها الأفلام الخمسة الأولى التي اخترتها، بالإضافة إلى فيلمي «البريء» و{زوجة رجل مهم»، لكني حزنت لخروج أفلام: «عودة الابن الضال»، «المذنبون» و»ليلة سقوط بغداد» من القائمة بعدما احتل مكانها: «في بيتنا رجل، غروب وشروق، سواق الأتوبيس، الأرض»، بالإضافة إلى «زائر الفجر» و{طيور الظلام»، ففي رأيي أن «ليلة سقوط بغداد» فيلم سياسي من الطراز الأول، كذلك الحال بالنسبة إلى فيلمي «المذنبون» و{عودة الابن الضال»، الذي يمكن القول، من دون مبالغة، إنه قدم درساً في السياسة، وقراءة الواقع الراهن، من دون خطابة أو مباشرة، بل بلغ أقصى درجات المتعة والجمال والإبداع عندما قدم هذه القراءة من خلال ملهاة موسيقية سكنت القلوب، وهيجت العقول.على أية حال كانت فرحتي كبيرة باحتلال فيلم «البريء» المكانة اللائقة به، فهو الفيلم الذي ما زال صالحاً لإثارة الدهشة، وانتزاع الإعجاب، بقدرته الفائقة على طرح ثنائية القهر والحرية في جو مصري خالص، وإطار إنساني واضح، فضلاً عن ثراء التفاصيل، والتكثيف الرائع، فالجهل والفقر هما البيئة التي يرتع فيها «أحمد سبع الليل رضوان الفولي» - أحمد زكي - الذي لا يقود في حياته سوى: بقرة وحمار، ويصبح جهله سبباً في إلحاقه بأحد المعتقلات النائية، التي تشترط فيمن يتواجد بها أن يكون أمياً يجهل القراءة والكتابة أو كما جاء في الفيلم :»ألا يكون قادراً على فك الخط»، لتسهل قيادته، وإخضاعه، وهو ما يؤكد عليه الكاتب وحيد حامد والمخرج عاطف الطيب منذ اللحظة الأولى لوصول عربة المجندين الجدد إلى المعتقل، حيث نرى جندياً مُحبطاً، منكسا الرأس ومهزوم النفس يدهس بحذائه الميري عقرباً تزحف نحوه، في دلالة لا تخفى على المتلقي، بينما تتبدى أولى مظاهر القهر في صورة الضابط – حسن حسني – الذي يسير في فناء المعسكر وبرفقته جندي، لا يفارقه، يحمل مروحة ليخفف عنه وطأة الحرارة الشديدة، في حين يُجبر المعتقلين على الوقوف في شدة القيظ، ويؤمرون بتناول الطعام زحفاً ومغلولي الأيدي!
لم أتفق يوماً مع الحل العنيف الذي لجأت إليه الدولة في مواجهة فيلم «البريء»، عندما شكلت في العام 1986 لجنة ضمت ثلاثة وزراء هم: وزير الدفاع السابق عبد الحليم أبو غزالة، وزير الداخلية السابق أحمد رشدي ووزير الثقافة السابق أحمد هيكل، اتخذت قراراً بحذف مشهد النهاية، غير أن قراءتي الجديدة للفيلم قادتني إلى شعور خفي أن النهاية التي يستعيد فيها «أحمد سبع الليل رضوان الفولي» (الناي)، دلالة على استعادة إنسانيته المهدرة، ووعيه الضائع، ربما تكون أكثر عقلانية من النهاية الانفعالية التي انتفض فيها غاضبا، مع اقتراب وصول دفعة جديدة من المعتقلين، وارتكابه مذبحة في حق ضباط وجنود معسكر الاعتقال.هنا أتوقف أيضاً عند الطريقة التي رسم بها الكاتب وحيد حامد الشخصيات، فعلاوة على الواقعية الشديدة لشخصية «أحمد سبع الليل» تبهرنا ازدواجية العقيد «توفيق شركس» - محمود عبد العزيز – الذي يبدو وديعاً، أليفاً ومستأنساً في حياته اليومية، حتى إنه يرضخ لتعنيف عسكري المرور، ويوافق على أن يؤدي دور الساحر في حفل صديقة ابنته، لكنه يتحول إلى نمر شرس بمجرد أن يعود، وهو منتفخ الأوداج، إلى عرينه – المعتقل – كما يعاني ضعفاً في شخصيته، ورجولته، ما أدى إلى خيانة زوجته، كما فهمنا من مكالمته الهاتفية مع طفلته، ومن ثم راح ينفث غضبه، ويتخلص من أمراضه النفسانية، في التنكيل بالمعتقلين!«البريء» نغمة صالحة لكل زمان ومكان كونها تكرس الحرية، وتبحث في مفهوم الحقيقة، وتندد بالقهر والكبت، وتناهض اعتبار التفكير تهمة، وتفضح محاولات الرد على الرأي بالكي بالنار، وتتعاطف مع «القلب اللي كان بريء زى الطير الطليق»، لكن أهم ما في فيلم «البريء» - في رأيي – أنه لم يقع في الفخ الذي وقعت فيه أفلام كثيرة من قبله، ولم يختتم الأحداث بـ «ثورة تصحيح» أعادت الأمور إلى نصابها الصحيح، ولم يقل إن «القائد المُلهم اعتقل زبانية جهنم»، وإن «القتلة لقوا جزاءهم» بل استمر على نهجه الغاضب حتى مشهد النهاية (صيحة البطل المدوية) وربما لهذا السبب أعود للتأكيد مجدداً أن الحل الفردي الذي حملته النهاية الأصلية – المبتورة – كان سيخصم من رصيد «البريء» كثيراً.. ورب ضارة نافعة!