يرى الناقد والشاعر المغربي حسن نجمي أن كتابة الشعر والرواية تستجيب لنداء داخلي يكاد يكون مجهولاً. وهو يرتبط بالشعر رغم أنه يمارس فنوناً عدة، ويعترف بعثوره على ذاته بالقصيدة وبكتابة الرواية بروح القصيدة أيضاً، وينافس نفسه محاولاً تحقيق قفزات نوعية في منجزه الشعري.

Ad

تكتب الشعر والرواية والمقال، فأي زاوية تجذبك إليها أكثر؟

أعثر على نفسي في القصيدة، فقد بدأت شاعراً. حتى عندما كتبت الرواية كنت أخطها بروح الشاعر، حرصاً على وضعه الاعتباري. لم تغرني أية صورة أخرى بخلاف الشعر. لا أجد نفسي في وصف للرواية، حيث أشعر بوجود مسافة بيني وبين صورة الروائي. ربما كنت أخشى على صورة الشاعر وربما هو نوع من التهيؤ من التلبس بصورة جديدة، لكن في النهاية أن تكون شاعراً يعني أن تملك روح الكتابة الأدبية بالمعنى التقليدي السائد منذ عقود، عندما كان الحرص شديداً على وضع حدود بين الأجناس الأدبية. ثمة مفاهيم جديدة في النظريات الأدبية المعاصرة، خصوصاً لدينا في المغرب، حيث نتمثل النظرية الأدبية في فرنسا وندرك إلى أي حد كيف أصبحت الكتابة جنساً في حد ذاتها. ثمة مفهوم جديد للكتابة يكاد يجعل منها جنساً قائماً بذاته.

 أحاول أن أكتب اليوم قصيدة تبعدني عن روح السرد ورواية تتغذى من روح الشعر، وأن أقيم هذه الوشائج الخفية والدقيقة بين كل هذه الأشكال. للكتابة الشعرية محدداتها، وللرواية مستلزماتها، ولا يجوز أن نحتال على القراء فتكتب رواية لا يتوافر فيها متن حكائي وشخصيات وزمان كي نبني عالماً روائياً.

لكن لماذا لا ينصب اهتمامك على الرواية رغم تصدرها المشهد الأدبي مقارنة بالشعر؟

أعتقد أن كتابة الشعر والرواية تستجيب لنداء داخلي يكاد يكون مجهولاً. لا نكتب الشعر أو الرواية لوجود حاجة إليها في السوق، أو لأن في الساحة الثقافية إغراءات معينة تعرض علينا كتابة الرواية، أو لأنها أكثر انتشاراً أو لتوافر قدر كبير من الروح التوثيقية التي تسعف النقاد. عندما أذهب إلى القصيدة أكون بحاجة إلى الشعر، ولا أستطيع العثور على ما يستجيب لهذه الحاجة في الرواية أو القصة القصيرة. ولكن، مع ذلك، ينبغي في هذه الحالة أن نصون للشعر قيمته ووضعه الاعتباري في الساحة العربية. لست متفقاً تماماً مع هذه الجلبة التي أصبحت تسود في الخطاب النقدي العربي الراهن بأن الزمن للرواية، وأن الشعر لم يعد ديوان العرب. هذه الكلاشيهات التي تظل في النهاية مجرد تعبيرات إعلامية أكثر ما تعبر عن لحظة معرفية جديدة. في تقديري، الساحة العربية أكبر مما نتصور وتتسع لأشكال الكتابة كافة. بالتالي، لسنا بحاجة إلى الحروب الصغيرة بين الشعراء والروائيين. من ناحية أن الزمن للرواية أو الشعر، فأقول ربما كان الزمن للصورة. تنجذب غالبية العائلات تنجذب إلى التلفزيون أكثر من قراءة الكتب. لكن مع ذلك علينا أن نفعل ما نستطيعه وما ننجح في إنجازه.

أن ينجح الروائي في كتابة روايته، كذلك الشاعر مع شعره، أفضل من القفز من مكان إلى آخر بدافع الإغراء الذي يوفره السوق. علينا أن نستجيب للكتابة من داخلنا أكثر مما تفرضه متطلبات الانتشار والتداول.

بعد ثلاثة عقود مع الشعر، إلى أين وصلت قصيدتك اليوم؟

أنتمى إلى جيل الثمانينيات في الكتابة العربية عموماً والمغربية خصوصاً، وعندما خرجت في حقل الكتابة الشعرية وجدت أمامي رواداً ومعلمين في القصيدة. من هنا، بدأت أكتب وأتعلم كل يوم، ومع الوقت ازددت اقتناعاً بأن كتابة الشعر الحقيقي تتطلب باستمرار أن يتسلح الشاعر بروح التلميذ والتواضع لنبض القصيدة والواقع. ورغم ما راكمت من مجموعات شعرية وامتداد في المكان والزمان، ورغم سعة وعمق الوشائج والعلاقات التي تربط بيني وبين عدد كبير من الشعراء في الوطن العربي، ما زلت حريصاً على أن أتعلم منهم. لم أدخل في منافسة أو صراع مع شاعر، وإنما أنافس نفسي وأحاول أن أنتصر على منجزي الشعري كي لا أكون أسيراً أو سجيناً له، وحتى أتخطاه إلى ما هو أكثر جدة واستجابة لتطور وعيّ الشعري. من هنا، بدأت تدريجاً السعي والبحث عن المرجعيات الشعرية السابقة وقراءتها ليس لمواكبة التطورات في الحركة الشعرية فحسب، ولكن أيضاً للنظر إلى الجغرافية الشعرية النائية خارج الوطن العربي ومعرفة كيف يكتب الشاعر سواء في الشرق أو الغرب اليوم. علينا الانتباه جميعاً إلى ذلك حتى نرتقي بخطابنا الشعري أكثر.

كيف يتجلى المشهد الشعري العربي عموماً والمغربي خصوصاً، كونك ذكرت بأنه يسير في قبضة الماضي ويقطع خطوات المستقبل في إطار بطيء؟

المشهد المغربي جزء من المشهد الشعري العربي. لا قطيعة على الإطلاق بينهما. ورثت الكتابة المغربية جزءاً من انتصارات وانكسارات التجربة العربية شئنا أم أبينا. نحن ورثة بدر شاكر السياب، نازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وتلامذة أدونيس وسعدي يوسف، الماغوط، أنسي الحاج وغيرهم من شعراء كبار. وفي الوقت نفسه، لا نستطيع أن نقول إن التجربة الأدبية المغربية هي استنساخ لهذه التجربة العربية المتنوعة. ثمة قدر كبير من الخصوصية في تجربتنا الأدبية، خصوصية تعبر عن مسارنا التاريخي والثقافي وعن طبيعة واقعنا المركب والمعقد في المغرب وأيضاً عن حاجتنا إلى وجودنا الذي يرتبط بمكان ورسالة معينة. لذلك نتعلم من التجربة العربية ونحاورها ونستند إلى لوحتها الكبيرة، وفي الوقت نفسه نحاول أن نتأن عنها كي نكتب قصيدة تشبهنا ورواية تعبر عن خصوصيتنا المغربية.

ولكن أيضاً التجربة العربية المعاصرة أصبحت بحاجة إلى النظر إلى شرفات بعيدة، ولا بد من أن نكتب رواية تضاهي الرواية الأميركية المعاصرة، وتنتصر على التقليدية. لم يعد ممكناً أن نكتب من جديد رواية نجيب محفوظ، فقد أصبح في مكان الخالدين وعلينا أن نعود إليه ونقرأه كتجربة اكتملت. ولذلك علينا تقديم تجربة أخرى تتغذى من تراث محفوظ الروائي. لن نتخطاه، ولكن لا بد من أن نحترف عنه، فلا يمكن أن يظل بعض الأسماء الشامخة هي الأفق، لذا أؤمن بكل قصيدة ورواية مقبلة في تجربتنا الأدبية المقبلة.

الشعر والتجربة

• تحمل النقد مسؤولية عدم الدفع بالإبداع من خلال كتابك {الشعر والتجربة}، فإلى أي مدى ترصد قصور المشهد النقدي؟

في الواقع، لا أريد أن أتحدث عن القصور بمعنى عدم اهتمام النقاد العرب بما يكتبه الأدباء، ولكن أشير إلى الاختلال في العلاقة بين ما يٌنجز أدبياً شعراً وسرداً وما ينجز نقدياً. من ناحية عدد النقاد، لا يمكن أن ننهض بقراءة ومواكبة ما يكتب، فهي مهمة صعبة جداً أمام الخطاب النقدي. ولكن ربما ليس من الضروري أن كل ما نكتبه ينبغي أن يقرأه النقاد ويدافعوا عنه. ومن ناحية أخرى، الخطاب النقدي نفسه عليه أن يجدد أدواته ومفاهيمه وخلفياته النظرية كي يتجاوب مع اللحظات المتجددة في التجربة العربية. ثمة مبدعون يكتبون نصاً تقليدياً أو نمطياً على الأقل. نقرأ اليوم قصائد فيها بُعد سينمائي وتشكيلي، وقصيدة تعبر عن روح ورؤية مختلفة تتغذى من الوسائل الجديدة والوسائط المتعددة. من هنا، الناقد الأدبي بحاجة إلى تطوير نفسه وخطابه كي يمسك بعناصر التجربة الأدبية الجديدة.