جون غوتمان «أينشتاين» الحب!

«بشكل عام، كل يمكن أن نفعله في الحب إصلاح ما نفسده!». يحصل ذلك لأن أفضل الأزواج يمكن أن يفوّتوا محاولات التواصل الصغيرة، وتحديداً في 75% من الحالات على الأقل بحسب جون غوتمان المعروف بدقته الشديدة. سافرتُ إلى الساحل الغربي ومررتُ بمنطقة بوجيه ساوند لاستكشاف ما فعله عميد الأبحاث المرتبطة بالعلاقات لتحويل أعمق تجارب الحب إلى كيان دقيق: الرياضيات. غوتمان معروف بالنسبة إلى بعض الناس. فهو اكتشف منذ فترة طويلة أن الحفاظ على علاقة مُرضِية يتطلب من الثنائيات أن تخصص خمس ثوانٍ من العواطف الإيجابية مقابل كل ثانية من العواطف السلبية خلال الخلافات المحتدمة. إنها خطوة ضرورية لأن العواطف السلبية، مثل النزعة الدفاعية ومشاعر الازدراء، تستطيع إيذاء العلاقة أكثر مما تستطيع العواطف الإيجابية مساعدتها.

منذ ذلك الحين، تبين أن المعادلة التي طرحها عن العواطف الإيجابية مقابل العواطف السلبية أقرب ما يكون إلى الأفكار البديهية في مجال علم النفس، ويمكن تطبيقها عموماً على جوانب عدة من الصحة والراحة الشخصية. تعطي النزعة السلبية أثراً أكبر على الدماغ. وما لم نتخذ الخطوات اللازمة للتصدي لها، ستتراكم مشاعر الازدراء، وذلك يعزز احتمال تباعد الشريكين عاطفياً بوتيرة سريعة ومستمرة. يكفي أن يراقب غوتمان الشريكين وهما يتكلمان عن موضوع معين بضع دقائق كي يتوقع بدقةٍ تصل نسبتها إلى 90% احتمال بقائهما معاً والمدة المتبقية لعلاقتهما. قد يكون جون غوتمان أكثر عالِم رومانسي في العالم. إصراراً على أن الحب شكل من الطاقة. ومن خلال التعبير عن ديناميات العلاقات الإنسانية بالمصطلحات الرياضية، يهدف إلى إنقاذ المزيد من تلك العلاقات. هنا قراءة في كتابه {مبادئ الحب}.

تبر معادلة العواطف الإيجابية مقابل العواطف السلبية أساسية جداً لدرجة أنها تحتل المرتبة الأولى على لائحة {المبادئ الطبيعية للحب} التي طرحها جون غوتمان وبلغ عددها 45 في أحدث عمل له بعنوان «مبادئ الحب» (Principia Amoris)، وهو كتاب يعتبره أحد أعظم إنجازاته. استناداً إلى أكثر من 40 سنة من الأبحاث المبتكرة التي جرت في معظمها داخل شقة شبيهة بالمختبر ومصمَّمة لمراقبة الثنائيات، يكشف الكتاب عن النظام الذي يجب أن ترتكز عليه علاقات الحب بحسب غوتمان.

بحسب رأيه، الحب نظام من الطاقة وحين يتفاعل الشريكان، ينتجان مجالاً من القوة، ويتمتع كل واحد منهما بالقوة اللازمة للتأثير على ما يفعله الشريك الآخر في المرحلة اللاحقة. يقدّم كتاب {مبادئ الحب} طرقاً رياضية يمكن أن تؤثر على تفاعل الشريكَين في ما بينهما فضلاً عن عواقب تلك التفاعلات.

في كل مكان من العالم، اكتشف غوتمان أن الناس يقيّمون تلقائياً كل تفاعل إنساني على مقياس يتراوح بين المشاعر الإيجابية والسلبية. لإصلاح الضرر الناجم عن تفويت فرصة التواصل مع الطرف الآخر، يجب أن يتكيف الأفراد مع حاجات الشريك ومع حاجاتهم الخاصة. يعتبر غوتمان أن هذه الطريقة تقيس مدى ثقتنا بأن الشريك يهتم بمصلحتنا ويستطيع الإصغاء إلينا من دون اتخاذ موقف دفاعي، حتى لو كان الشريكان متخاصمَين في لحظة معينة. إنه أهم عامل على الإطلاق وهو كفيل بجعل الزواج يتجاوز مرحلة الانفصال المحتملة بعد سبع سنوات من العلاقة.

يُعتبر هذا العامل أيضاً تجسيداً اجتماعياً لما يُعرَف في نظرية الألعاب باسم {توازن ناش}: إنها المرحلة التي حددها عالِم الرياضيات جون ناش الفائز بجائزة نوبل والتي يحصد فيها شخصان في أي تفاعل أقصى درجات المنافع الشخصية.

كل من يجيد التحكم بالعلاقات يؤيد الشعار التالي: {حين تشعر بالألم، يتوقف العالم كي أصغي إليك وحدك}. تبدو هذه العبارة أقرب إلى الشعر من الرياضيات. لكن يوضح غوتمان: {الاختلاف بين الشعر والرياضيات ليس كبيراً. عند قياس المفهوم المناسب، يمكن بلوغ عمق العاطفة}.

رياضيات المشاعر

لطالما انجذب غوتمان الرائد في مجال علم النفس نحو الرياضيات. نشأ في بروكلين وهو ابن مهاجرَين أستراليَّين. بالكاد بدأ والداه حياتهما الزوجية في فيينا (كان والده طالب طب وكانت والدته رئيسة طهاة في فندق) حتى أقدم هتلر على غزو البلد في عام 1938. فأُجبِر اليهود على مغادرة كليات الطب (خسرت 50% من قدراتها و40% من طلابها) وهرب الثنائي الشاب إلى سويسرا وهما لا يحملان إلا مكعب سكر وحبة ليمون بحسب سجل العائلة. كان البلد قد قرر عدم استقبال المزيد من اليهود، لكن سُمِح لهذا الثنائي بدخول البلد بسبب مهارات والدة غوتمان في مجال الطبخ. تم تكليفها بالطبخ في مخيمات اللاجئين.

غادر الزوجان غوتمان سويسرا وتوجّها إلى جمهورية الدومينيكان حين أعلن الدكتاتور رافاييل تروجيلو أن البلد سيستقبل مئات آلاف اللاجئين اليهود من أوروبا. وُلد غوتمان هناك في عام 1942. وبعد ثلاث سنوات، توجّه والداه إلى الولايات المتحدة واستقرا في ميامي إلى أن أوشك والده يوماً على إطلاق أعمال شغب لأنه جلس في الجهة الخلفية من حافلة. صُدِمت العائلة من مظاهر التعامل العنصري في الجنوب، لذا توجهت إلى نيويورك وأقامت في حي يهودي تقليدي في بروكلين.

كان غوتمان في صغره يمضي ساعات طويلة في {المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي} وفي {مكتبة بروكلين العامة}. في عمر التاسعة، بعد قراءة كتاب {مطاردو الميكروبات} (Microbe Hunters) الكلاسيكي بقلم بول دي كرويف خلال رحلاته في قطار الأنفاق، قرر أن يصبح عالِماً. فطلب الحصول على مجهر، وحين فاجأه والداه وجلبا له واحداً كان قد رآه في واجهة أحد المتاجر، أنشأ أول مختبر له داخل خزانة حيث كان يفحص بحذر أجنحة الحشرات وقذارات المياه.

كانت علاقة والديه صلبة رغم الخلافات العابرة من وقت إلى آخر. واجه والده وقتاً عصيباً في طفولته، فقد توفيت والدته حين كان في الخامسة من عمره، وتم إرساله بعيداً إلى مدرسة يهودية دينية في بولندا حيث أصبح حارساً للمجتمع اليهودي. يتذكر غوتمان تلك المرحلة قائلاً: {لم يكن لديه أب يقتدي به لكنه أصبح أباً صالحاً. كان يتذكّر طفولته ويتعاطف مع الأولاد الذين يتجاهلهم الآخرون}.

كانت والدته امرأة صالحة وقد كانت المثل العليا التي تتمسك بها تزعج زوجها أحياناً. في إحدى المرات، شاهدت والدته امرأة تبكي على عتبة مبنى سكني قريب. تبين أن تلك المرأة التي ترمّلت حديثاً طُردت من شقتها للتو. فقصدت والدته صاحب الشقة. أضاف غوتمان: {أخبرَتْه بأنه لا يستطيع التصرف بهذه الطريقة وأنها ستحرص على إبلاغ الجميع بما فعله مع هذه المرأة. غضب والدي لأنها جعلتنا نتأخر، لكن هكذا كانت طبيعتها. كانت تتمتع بأخلاق عالية ولا تحب الظلم}.

في أحد الأيام، اصطحبه والده مع شقيقته للتنزه في الحديقة وصدمهما حين سألهما إذا كانا يفضلان الإقامة مع والدتهما أو والدهما. يقول غوتمان: {شعرتُ بغضب عارم. أخبرتُه بأنني مجرد طفل ولا يُفترَض بي أن أتخذ هذا النوع من القرارات. وقلتُ له إنني أتمنى أن يبقيا معاً. وهذا ما حصل}.

كانت تلك المرة الأولى التي يفهم فيها مدى هشاشة الزواج، لكنه لم يدرك يوماً أنه موضوع يستحق الدراسة. كان غوتمان، مثل عدد كبير من الفتيان في عمره، يعشق الرياضيات. غداة الحرب العالمية الثانية، كان الناس مقتنعين بأن ألبرت أينشتاين هو سبب انتصار الحلفاء: {حتى أن أينشتاين لم يشارك في مشروع مانهاتن، لكن انتشرت تلك الخرافة القائلة إن معادلته الشهيرة (E=MC2) ضمنت الفوز بالحرب. نشأتُ وأنا مقتنع بأن الرياضيات ممتعة ومؤثرة}.

حين كان غوتمان طالباً في جامعة فيرلي ديكنسون، راح يعلّم الحساب وعلم الهندسة التحليلية في مدرسة ليلية. ثم قصد معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بعد حصوله على {منحة وودرو ويلسون}. حين وصل إلى هناك، شعر بخيبة أمل بسبب فصل الرياضيات التطبيقية عن الرياضيات النظرية، لذا بدت له صفوف الرياضيات أقل تشويقاً من نصوص علم النفس التي كان يطالعها زميله في السكن. فنال شهادة ماجستير ثم غادر قسم الرياضيات واتّجه إلى اختصاص علم النفس رغم استياء والده.

فنال شهادة دكتوراه في علم النفس العيادي من جامعة ويسكونسن حيث أصبح عالِم نفس للأولاد. ثم طور وسائل لدراسة التفاعلات التي تنتج الصداقات بين الأولاد واكتسب خبرة مبكرة في قياس العلاقات الديناميكية. لكن كان اقتراب والدَيه من الطلاق كفيلاً بترك أثر عميق في داخله. وحين انتقل إلى جامعة إنديانا، أسس أول مختبر رسمي له لمراقبة ودراسة {أسياد الحب وكوارث الحب}.

كانت الثقافة جاهزة لهذا النوع من الدراسات. فقد ارتفع معدل الطلاق في الولايات المتحدة بنسبة قياسية في أوائل السبعينات. وأبدت الثنائيات استعداداً متزايداً لطلب المساعدة، مع أن وسائل المساعدة كانت ضئيلة حينها.

حصل غوتمان على آلة تصوير، وقد كانت أداة بحثية جديدة نسبياً، وبدأ يسجل محادثات الثنائيات ويدرس الأشرطة مراراً وتكراراً لرصد أي اختلاف بين الثنائيات السعيدة والتعيسة. فركز بشكل متزايد على الجوانب العاطفية لدى الأزواج (كانت عابرة لكن حقيقية) وطريقة اختبارهم لعواطف الشريك. في إنديانا، تعاون مع روبرت ليفنسون الذي كان بدوره أستاذاً مساعداً في علم النفس وكان يهتم بقياس الردود النفسية خلال التفاعلات بين الثنائيات.

أصبح الرجلان صديقين ولا يزالان كذلك حتى اليوم. يقول ليفنسون ضاحكاً: {إنها علاقة أخوية رومانسية}. يضحك عدد من زملائهما عليهما أيضاً. كانوا يعتبرون أساليبهما البحثية جنونية. كانت المقاربة الطاغية في علم النفس تقضي بقياس التفاعلات تجاه حافز مدروس مثل صوت طلق ناري. لا شك أن مراقبة ثنائيات طُلِب منها التكلم عن حدث صعب في العلاقة الزوجية هي عملية مزعجة  وشائكة.

يوضح ليفنسون: {ظن الناس أن التعاون معنا سيكون أشبه بانتحار مهني. بحسب رأيهم، ما كنا لنتوصل إلى أي نتيجة إذا وضعنا أجهزة استشعار على هذه الثنائيات وصورناها وطلبنا منها التحدث عن مشاكل زوجية صعبة. تعجّ القنوات التلفزيونية اليوم بأشخاص يفصحون عن مشاعرهم أمام الغرباء. لكن في عام 1974، لم يكن جيري سبرينغر موجوداً}.

لكن عمدت الثنائيات في النهاية إلى فتح قلوبها. وخلال تصوير أحاديثها، سجلت آلات أخرى سرعة تدفق الدم ومعدل ضربات القلب وحرارة البشرة ودرجة توصيل الكهرباء وعوامل أخرى. سرعان ما رصد غوتمان لحظات متماسكة، وتحديداً حين تحركت المؤشرات الفيزيولوجية في الاتجاهات نفسها لدى الشريكين معاً، ما يشير إلى تدفق عاطفة قوية بينهما. فتعقب طريقة تناسق القياسات مع متغيرات أخرى مثل الكلمات وتعابير الوجه ونبرة الصوت.

كشفت أجهزة الاستشعار أيضاً أنّ أسعد الثنائيات كانت هادئة داخلياً ومسترخية في ظل وجود الطرف الآخر. أما الثنائيات الأكثر تعاسة، فقد كانت ناشطة فيزيولوجياً ومتزنة بما يكفي لخوض المعركة، رغم جمودها ظاهرياً.

رغم أهمية التسجيلات، برزت أيضاً أهمية جهاز التصنيف الذي ابتكره مع ليفنسون كي يلخص الأفراد طريقة تعاملهم مع عواطف الشريك. حين شاهد كل شريك شريط المحادثات، طُلب منه استعمال الجهاز لتصنيف مشاعره خلال كل تفاعل.

يقول غوتمان: {يوضح جهاز التصنيف جوانب عدة. إذا شعر شخص بالراحة تجاه مسار التفاعل بينما شعر آخر بالسوء، يعني ذلك أنه زواج لا رابح فيه. لكن يكون الأشخاص المتناغمون في طريقة تعاملهم مع تفاعلاتهم متعاونين جداً. هم يهتمون بقيم الطرف الآخر. يعني ذلك التناغم أن تشعر أنت بأهمية التفاعل بنظري وتحدد ما أشعر به حيال ذلك التفاعل}.

لتفسير سيل الكلمات ونبرات الصوت وتعابير الوجه وغيرها من رسائل غير شفهية تُعتبر من أسس التواصل بين الثنائي، نظمّ غوتمان جميع ردود الفعل. عاد في النهاية إلى الرياضيات. حين طبّق عدداً من الأفكار ووسائل حوسبة المعلومات لواضعي نظريات من أمثال كلود شانون، وجد أنماطاً متماسكة في البيانات وقد سمحت له بتوقع ما يجعل سلوك أحد الشريكين محركاً لسلوك الطرف الآخر.

لكن تزامناً مع تطور الدراسات، انهارت حياة غوتمان الشخصية. في عام 1981، انتهى زواجه الثاني (كان قد اختبر زواجاً قصيراً وتعيساً في الجامعة) بعد عشر سنوات. يعترف قائلاً: {حبذا لو كنت أعرف المزيد عن كيفية انتقاء الشريك، لكن كانت هذه العملية لغزاً بالنسبة إلي حينها. لم أكن أعلم ما يجب أن أبحث عنه ولا الأبعاد المهمة أو طبيعة التجربة حين تكون العلاقة ناجحة. يجب أن يكون الجو العام إيجابياً وسلساً وإلا ثمة خطب ما في العلاقة. يمكن إصلاح هذا الوضع لكننا لم ندرك هذا الأمر في تلك الفترة}.

يستنتج ليفنسون الذي أصبح اليوم أستاذاً في جامعة كاليفورنيا، بيركلي: {يدرس جميع علماء الاجتماع العظماء موضوعاً لا يأتي إليهم بسهولة. ثمة طابع شخصي في الاكتشاف الذي تمهد له الأبحاث. خاض جون علاقات جيدة وأخرى سيئة، وهي جزء من غموض الحياة}.

في عام 1986، انتقل غوتمان إلى جامعة واشنطن في سياتل. وقد خصص الوقت أيضاً لإيجاد شريكة جديدة، فواعد حوالى ستين امرأة خلال ستة أسابيع عبر الرد على إعلانات شخصية في الصحف والمجلات. يقول غوتمان: {كانت جولي شوارتز المرأة رقم 61 لكنها كانت خارج اللائحة الأصلية. لم تضحك أي امرأة من اللواتي قابلتُهن. لكن حين تحدثتُ مع جولي على الهاتف، مرت أربع ساعات بسرعة وقد ضحكنا كثيراً}. فأدرك غوتمان في تلك اللحظة قيمة الصداقة والفكاهة في الحب. تساهم الفكاهة في تلطيف الجو بين الثنائي داخلياً وخارجياً خلال الصراعات. تزوج الثنائي في عام 1987.

مختبر الحب

في جامعة واشنطن، أسس غوتمان {مختبر الحب} (مساحة تطل على الماء وقد صُمّمت كي تشبه منتجعاً للراحة فيه سرير وفطور). ثم جمع إعلانات زواج من الصحف المحلية واستقدم 130 ثنائياً من الأزواج الجدد الذين يمثلون مختلف الفئات الديمغرافية لتمضية 24 ساعة هناك ومراقبتهم. كان غوتمان يهتم باستكشاف طريقة تطوير الحميمية بين الطرفين حتى في مرحلة المواعدة الأولية.

بمساعدة بعض الداعمين والطلاب الجامعيين، حلل غوتمان الأشرطة ولاحظ أن الأزواج لا يكفون عن إطلاق المحاولات والمناورات لبدء محادثة أو الضحك أو الحصول على رد فعل معين. بعد ست سنوات، حين اتصل بالأزواج الذين راقبهم سابقاً، عَلِم أن 17% منهم انفصلوا. عند مشاهدة الأشرطة مجدداً، اكتشف أن الأزواج الذين انفصلوا تفاعلوا مع 33% فقط من مبادرات الشريك، بينما تجاوب الأزواج الذين لم ينفصلوا مع مبادرات الشريك في 86% من الحالات: سمح لهم تخزين العواطف الإيجابية بتبادل المعاملة اللطيفة في أوقات الخلاف.

لطالما كانت أبحاث غوتمان تحت مجهر الرأي العام. فهي تتمحور حول الحب الذي يُعتبر موضوعاً أساسياً في حياتنا وفي بحثنا عن معنى الوجود، وهو موضوع لا يزال يحيط به الكثير من الغموض والخرافات. مع ذلك، استفاد غوتمان من حملة دعائية في عام 2005 حين وصف مالكوم غلادويل في الصفحات الأولى من كتابه {نظرة خاطفة} (Blink) الذي حقق أعلى المبيعات كيف ساهمت سنوات من الأبحاث الرامية إلى تفسير محادثات الأزواج في توضيح قوة العينات الصغيرة من التفاعلات والكشف عن طبيعة العلاقة كلها.

تعمقت الأبحاث في الثقافة لدرجة أن نتائجها قد تبدو بديهية. تقول عالمة النفس هارييت ليرنر، كاتبة {رقصة الغضب} (The Dance of Anger): {تؤكد أهم الأبحاث دوماً على ما نعرفه أصلاً. حين يعجز شخص عن تقديم مبادرة صلح ولا يستطيع الطرف الآخر قبول مبادرة مماثلة، وحين يمتنع الطرفان عن أخذ المبادرة لتغيير وجهة الخلاف وتبديده، وحين تكثر الانتقادات ومشاعر الازدراء وتصل العلاقة إلى طريق مسدود، وحين تتفوق التعليقات والتفاعلات السلبية على الكلمات الإيجابية، يعني ذلك طبعاً أن العلاقة تواجه أزمة عميقة}.

تضيف ليرنر: {حين أقتبس كلام غوتمان، وهو أفضل من قام بأبحاث عن العلاقات الزوجية، يتنبّه الناس إلى ما أقوله. وحين نخبر الناس بأن أبحاث غوتمان تثبت أمراً معيناً، يصبح أثر الخبر قوياً. غالباً ما يحصل التغيير حين نستوعب الحقائق التي نعرفها على مستوى أعمق}.

لم تكن أيٌّ من هذه الحقائق واضحة إلى أن كشف غوتمان وباحثون آخرون عنها عبر عمليات مراقبة وتحليلات شاقة. لكننا لا ندرك أنها وقائع بديهية إلا في مرحلة متأخرة. يوضح غوتمان: {حين أدرّب الأطباء، أتحدث عن 15 خرافة كان يعتبرها الناس صحيحة في مجال العلاقات، ولا يزال البعض يعتبرونها صحيحة حتى الآن، لكن دحضتها الأبحاث بالكامل}. تشمل تلك الأفكار مفهوم {المقايضة} الذي يفترض أن يطلق أحد الطرفين مبادرة معينة مقابل تلقي منافع أخرى لضمان نجاح العلاقة. هذا ما أدى إلى نشوء جلسات علاجية يبرم فيها الأزواج عقود تفاوض تنصّ على ما يريده كل طرف من الآخر. لكن تبين أن العطاء وانتظار شيء في المقابل يشيران إلى وجود خلل في العلاقة وليس العكس.

علاج عملي

خلال السنوات الثماني عشرة الماضية، تجاوز غوتمان النظريات وطوّر علاجاً عملياً لتحويل الثنائيات من {فاشلين في الحب إلى أسياد في الحب}. شريكته في هذا المشروع هي زوجته جولي وهي عالمة نفس. أسسا معاً معهد غوتمان في سياتل حيث يعلّمان برنامجهما للمعالجين ولأزواج عاديين. تخلى غوتمان عن منصبه بدوام كامل في جامعة واشنطن منذ 14 سنة، لكن لا يعني ذلك بالضرورة أنه سيتقاعد لأنه بلغ 74 عاماً.

أصبحت قاعدة عملياته الآن ملكية مدهشة في جزيرة أوركاس. في المقر الرئيس يقع منزل الثنائي الخاص وهو يعج بتحف فنية من رحلاتهما الدولية (هما يحاضران ويعلّمان حول العالم) ويبدو المكان مكتظاً لدرجة تمنع إضافة لوحة أو تحفة واحدة.

في التدريبات وحصص العلاج، يستخلص الزوجان غوتمان الأفكار من أبحاث جون ويطرحان أمثلة من زواجهما الخاص. هما يعرضان {الحوادث المؤسفة} التي اختبراها ويكشفان كيف تمكّنا من تجاوزها. صحيح أن غوتمان وجولي خبيران في مجالهما، لكنه يعترف بأن الجميع يواجهون الوضع نفسه على مستوى الحب: حين نفترض أن الثنائيات ستكون حاضرة لدعم بعضها البعض عاطفياً في 50% من الحالات، يعني ذلك أن النسبة الحقيقية تقتصر على 25%. وفي 75% من الأوقات، يقع الأزواج في مستنقع انعدام التواصل الذي يمكن أن يؤدي إلى تعزيز التعاسة والخلافات.

تتعدد الأسئلة التي يجب استكشافها بعد. طور الزوجان غوتمان برنامجاً (مهارات لإدارة العلاقة ومقاربة عاطفية لتهدئة الذات) إذا خرجت الخلافات عن السيطرة وأصبحت عنيفة. هما يريدان تكرار فاعلية ذلك التدخل عبر طرح نموذج دقيق. ابتكر جون أيضاً تدخلات لاختبارها على الثنائيات التي تواجه مشاكل الخيانة وللعلاقات التي يكون فيها الشريك مصاباً بإجهاد ما بعد الصدمة أو بحالة إدمان. يقول غوتمان: {قد تكون العلاقة أهم مصدر للشفاء. نظن أننا نملك التكنولوجيا اللازمة لتقديم المساعدة}.

لكن ألن يكون اختصار الرومانسية بمجموعة من المعادلات كفيلاً بإفساد العلاقة؟ يردّ غوتمان بسؤال آخر: {هل يزول الاندهاش الذي نشعر به عند النظر إلى السماء ليلاً بعد فهم طريقة عمل النجوم؟ أم أنّ المعرفة تزيد عظمة الليل؟}.

متغيرات

في كتاب {مبادئ الحب}، صقل غوتمان الأفكار المستخلصة من أبحاث استمرت لعقود وعبّر عنها بكلمات وبمعادلات تفاضلية. أمضى أكثر من 15 سنة مع خبير الرياضيات وعلم الأحياء جيمس موراي لتحويل النتائج إلى متغيرات قابلة للقياس، ثم ابتكر معادلات تُبيّن طريقة تفاعل المتغيرات لدفع الزواج نحو الجحيم أو النعيم. تبدو محاولة فهم الحب شبيهة بمحاولة فهم الطقس. يوضح غوتمان: {إنها عملية معقدة لكنها تعج بأنماط يمكن أن يفسرها علم الرياضيات}.

يضيف: {قيل لستيفن هوكينغ إنه سيخسر نصف قرائه في كل مرة يطرح فيها معادلة، لذا اكتفى بطرح واحدة. لكن يعجّ كتابي بالمعادلات وقد وضعتُها في مربّعات على الهامش لأنني أعرف أن عدداً كبيراً من علماء النفس ينفرون من الرياضيات. لكن عبر تجاهل الرياضيات، يغفلون عن أساس نظري لبعض الأنماط التي تم رصدها خلال التجارب}. حين يفهم المعالجون الأنماط والمتغيرات، يمكن أن يراقبوا ثنائياً طوال 15 دقيقة وأن يمضوا 45 دقيقة وهم يحللون الفيديو ويستعملون سلسلة من المعادلات التي تشير إلى الخصائص التي يجب معالجتها لدى الشريكين أو في علاقتهما. حتى لو لم يستعملوا المعادلات بهذه الطريقة، توضح الرياضيات الديناميات القائمة بين الأزواج. يظن غوتمان التفاؤلي بطبيعته أن هذا المجال سيحتاج إلى بعض الوقت كي يفهم أهمية هذا العمل. لم يصدر أي تعليق من علماء النفس على الكتاب، لكنه جذب انتباه علماء الرياضيات من أمثال هانا فراي التي تناقش الموضوع في كتابها الجديد، {رياضيات الحب} (Mathematics of Love)، وفي منتديات النقاش الشهيرة.لا تزال رياضيات الحب تغيّر الأفكار الشائعة عن سر نجاح الزواج. يُقال مثلاً إن الزواج السليم يعني أن يتمكن الزوجان من تجاوز المصاعب التي تعكّر صفو أي علاقة. لكن يعتبر غوتمان أن هذا التفكير خاطئ. أفضل علاقة هي تلك التي لا يكتفي فيها الشريكان بإصلاح الحوادث المؤسفة بل يقومان بذلك سريعاً. يثبت مقياس {عتبة الإصلاح} أن الزوجين اللذين يعترفان بعدائيتهما ويبادران لتقديم التنازلات يمنعان تطور الخلاف وتراكم المشاعر السلبية. في المقابل، طرحت الرياضيات أفكاراً جديدة لغوتمان حول مختلف جوانب العلاقات. كشفت مثلاً أن أقوى الثنائيات هي التي تتجنب الخلافات. هي لا تدخل في دوامة السلبية كما تفعل ثنائيات أخرى عند مناقشة أي مشكلة. يقول: {قد لا يحب المعالجون سماع هذه النتيجة لأنهم يقابلون ثنائيات تتخبط بسبب تجنب الصراعات. لكنّهم يقابلون فعلياً ثنائيات تتعثر في اختيار أساليب معالجة الصراع. ينجح أسلوب تجنب الصراع حصراً حين يميل الشريكان معاً إلى تجنب الصراع}.