رأي: ثبات في وجه الاضطرابات

نشر في 21-10-2015
آخر تحديث 21-10-2015 | 00:01
كانت أسواق الأسهم العالمية تتراجع بعض الشيء خلال الأسابيع الأربعة التي جرت فيها لقاءات الغداء، لكن قلة من الحاضرين توقعوا ذلك الانخفاض الحاد الذي عانيناه جميعاً في شهر أغسطس.
 بلاك ستون في كل صيف، على مدى العقود الماضية، دأبت على تنظيم سلسلة من لقاءات الغداء أيام الجمعة أدعو إليها عدداً من الناشطين في صناديق التحوط والمسؤولين التنفيذيين للشركات وممولي المشاريع وأبرز مستثمري الملكية الخاصة وغيرهم، ومنهم كثير من الشخصيات المعروفة وعدد غير قليل من أصحاب المليارات.

ولم تكن غايتي من تلك اللقاءات أن أصل إلى أكبر مجموع ممكن للثروات الفردية التي يملكها ضيوفي في مكان واحد، بل أن أحاول تركيز أكبر قدرٍ ممكن من الحكمة على أهم قضايا الاستثمار التي تواجهنا جميعا. وعلى الرغم من أن أحدا من ضيوفي لم يتوقع العام الماضي ذلك الانخفاض الحاد في أسعار النفط أو الأزمة اليونانية أو تخفيض قيمة العملة الصينية، فقد شهدت تلك اللقاءات على مر السنين طرح عديد من الأفكار المثيرة للإعجاب.

كانت أسواق الأسهم العالمية تتراجع بعض الشيء خلال الأسابيع الأربعة التي جرت فيها لقاءات الغداء، لكن قلة من الحاضرين توقعوا ذلك الانخفاض الحاد الذي عانينا منه جميعا في شهر أغسطس.

فعلى الرغم من تلك التراجعات، كان معظمهم يثق بقدرة الاقتصاد الأميركي على تجنب الركود والنمو بمعدل 2 في المئة أو أكثر، وأن قطاع الإسكان سيكون المحرك الأبرز للاقتصاد، وأن سوق الصين المالي سيتراجع، لكن من دون حدوث أزمة حقيقية. ولو تحققت تلك الظروف، لكان ذلك مجرد تصحيح طال انتظاره (فقد مر أكثر من ثلاث سنوات منذ آخر مرة تراجع فيها مؤشر ستاندرد آند بورز S and P 500 بنسبة 10 في المئة) لتتابع بعدها الأسواق تعافيها. وكان رأي كثير من الحاضرين أن مؤشر ستاندرد آند بورز سيحقق أداء إيجابياً بنهاية العام.

أمر إيجابي

وقالت شريحة المشاركين القريبة من الشركات العاملة أن المشاكل في الصين لم تؤثر بعد على أعمالهم. ورأوا أن رد فعل المستثمرين كان مبالغاً فيه إزاء تراجع السوق الصينية. وأشار أحد الحاضرين إلى أن 1 في المئة فقط من أرباح الشركات الأميركية يأتي من الصين (بينما تبلغ المساهمة الإجمالية لجميع المصادر الأجنبية نحو 38 في المئة). وكان انخفاض أسعار النفط والسلع أمرا إيجابيا للشركات، كما كانت الشركات الأميركية قادرة على الاقتراض بأسعار فائدة جذابة.

وكذلك فقد أيدت معظم المؤشرات الاقتصادية، مثل طلبيات السلع المعمرة، تلك الرؤية بأن الاقتصاد الأميركي لايزال بخير. ومع ذلك، فقد كان الخوف من امتداد آثار التباطؤ الصيني إلى أسواق أخرى من أهم المشاغل التي تقلق المستثمرين.

فالصين هي أحد أهم مستهلكي السلع في العالم، كما أن حصة كبيرة من إنتاج السلع تأتي من الاقتصادات الناشئة. وهذه الأسواق التي تتضمن الصين تمثل نحو 40 في المئة من إجمالي الناتج العالمي. ولو دخل 40 في المئة من العالم في حالة ركود، فكيف يمكن ألا تتأثر الاقتصادات المتقدمة؟

اشتكى بعض المشاركين من ضعف الطلب الإجمالي، ما يجعل زيادة الإيرادات أمراً صعباً. ولعل هذا يفسر النشاط الكبير لعمليات الاندماج والاستحواذ من قبل الرؤساء التنفيذيين الذين يحاولون زيادة الأرباح بأي طريقة ممكنة، ومن ذلك تنفيذ عمليات استحواذ استراتيجية، إذ يمكن للشركة الجديدة تخفيض نفقاتها وزيادة أرباحها حتى مع زيادة طفيفة للإيرادات من خلال دمج وظائف التسويق والشؤون الإدارية. وكان الرأي العام أن عمليات إعادة شراء الأسهم ونشاط عمليات الاندماج والاستحواذ أمر إيجابي للسوق، لكن عددا من الحاضرين كان يشعر بالقلق من أن عمليات إعادة الشراء تحدث عند أسعار أعلى مما يجب، وأن الدافع الوحيد لها هو محاولة الشركات تضخيم أرباحها.

أول تشديد

في بداية أغسطس، اعتقد معظم الحاضرين أن أول تشديد للسياسة النقدية للبنك الاحتياطي الفدرالي سيكون في سبتمبر، لكن موقفهم بنهاية الشهر تحول إلى عدم اليقين، وغلب الرأي على قسم كبير من هذه المجموعة بأن الخطوة الأولى لذلك ستكون في عام 2016 بسبب عدم استقرار الأسواق.

وأشار أحد الضيوف إلى أن السبب الوحيد الذي يجعل أداء اقتصادات العالم تبدو جيدة هو قدرة الشركات على الاستدانة بفائدة منخفضة. وقد يكون ذلك في صميم مشاكل الصين، إذ من المتوقع أن يتعثر كثير من المقترضين ويعجزوا عن السداد، وأن السوق استشعر بوادر أزمة ائتمانية. وفي الولايات المتحدة، رفع البنك الاحتياطي الفدرالي ميزانيته العمومية من 1 تريليون دولار إلى 4.5 تريليونات بين عامي 2008 و2014، وساعد ذلك على نمو اقتصاد البلاد ولو بمعدل متواضع.

كما أن التسهيلات النقدية في جميع أنحاء العالم ساهمت في دعم النمو، لكن الهدف الأساسي من التوسع النقدي كان إحداث زخم اقتصادي حقيقي يمكنه الاستمرار حتى عندما تصبح سياسات البنوك المركزية أقل تساهلا. إلا أن بيانات الاقتصاد الأميركي أظهرت شيئاً من الضعف في أكتوبر الماضي عندما أوقف الاحتياطي الفدرالي ضخ السيولة في النظام المالي، مع أن إجمالي الناتج المحلي في الربع الثاني نما بمعدل حقيقي مشجّع بلغ 3.7 في المئة، وإن كان ذلك يرجع في جزء منه إلى بناء المخزون.

ومن الأمور التي تثير قلق المتابعين أن الديون المتراكمة خلال فترة التسهيل النقدي قد تصبح صعبة السداد. وهذا يصح بشكل خاص في قطاع الطاقة، حيث يوجد كثير من سندات الديون القائمة ذات العائد المرتفع، كما لجأت بعض الشركات الضعيفة إلى الاقتراض بشكل كبير. وقد يكون تراجع الأسهم علامة على وجود مشاكل في الائتمان.

  طيبة ورديئة

وفي قطاع التقنية، كانت بعض الأخبار طيبة وبعضها الآخر رديئة. وقد حضر مسؤول تنفيذي كبير في واحدة من كبرى شركات الإنترنت أحد لقاءات الغداء، وطرحت عليه سؤالي المفضل: "هل ستكون التطورات في العقود الثلاثة المقبلة بمستوى ما شهدته العقود الثلاثة الماضية؟" وكان جوابه بلا تردد أنه لا يتصور شخصيا أن تشهد العقود الثلاثة المقبلة اختراع أي شيء يشبه شبكة الإنترنت أو الهواتف الذكية. لكن التقدم في السنوات الثلاثين المقبلة سيكون أكبر أثرا في حياتنا، حيث أشار إلى وجود المئات من رواد الأعمال الذين يقدمون أفكارا تطمح لتغيير العالم، ويسعون لتأمين رأس المال من ممولي المشاريع.

وخلافاً للزمن الذي كانت فيها شركات غوغل وفيسبوك وأمازون تبحث عن التمويل، فإن رأس المال اليوم يبدو في متناول جميع من لديهم مفاهيم واعدة.

وأشار ذلك المسؤول التنفيذي إلى الذكاء الاصطناعي كمجال خصب واعد، وقال إن أي وظيفة متكررة يقوم بها البشر يمكن تنفيذها من قبل الآلة بمساعدة الحوسبة. ولا يقتصر ذلك على الأعمال العضلية فحسب، بل ينطبق أيضاً على عديد من الوظائف الفكرية في الهيئات الحكومية وشركات المحاماة وقطاع الإعلام.

وكما حلت التقنية في المصانع محل كثير من وظائف البشر، فإنها اقتربت الآن من مرحلة الاستغناء عن بعض الوظائف في المكاتب. وهذا يقودنا إلى الأخبار السلبية، حيث إن إلغاء عدد كبير من الوظائف المكتبية ذات الرواتب الجيدة سيفاقم مشكلة البطالة في الطبقة المتوسطة، وخصوصا أن الدخل الحقيقي المتوسط للأسرة لم يتحسن مع تعافي الاقتصاد، ويبدو أن هذه المشكلة ستزداد سوءا في المستقبل.

تقدم ثوري

أما المجال الثاني الذي تدنو فيه التقنية من تحقيق تقدم ثوري فهو تطوير العلاجات والأدوية، فالوصول السريع إلى البيانات الكبيرة يسرع عملية تطوير أدوية جديدة، تعالج أو تشفي عددا من الأمراض، بما في ذلك السرطان وأمراض القلب ومرض الزهايمر. لكن تراجع الوظائف المكتبية وزيادة متوسط الحياة المتوقع للطبقة الوسطى يمكن أن يزيد العبء الملقى على الحكومات لدعم وإعانة شعوبها التي تزداد عددا بينما تتراجع من حيث الإنتاجية. وفضلا عن ذلك، فإن زيادة عدد المعاقين يمثل مشكلة إضافية.

وبالعودة للصين، فقد كان الاعتقاد السائد لدى الحضور بأن الاضطرابات ستجعل القيادة الصينية أكثر حذراً. وقد تتحرك الصين ببطء في مساعيها لإعادة التوازن للاقتصاد، ومن المؤكد تقريبا أنها ستوقف مساعيها التوسعية الإقليمية وتركز بشكل أكبر على المحافظة على النمو الاقتصادي، إذ يعتمد النظام الحاكم في الصين على قيادة مركزية قوية، ومن شأن تصاعد الاضطرابات الشعبية أن يهدد الوضع القائم، ما سيدفع الحكومة لفعل أي شيء لتجنب ذلك. وأجمع الحضور على أن القيادة الصينية ستتمكن من المحافظة على الاستقرار.

كان من بين المشاركين في إحدى الجلسات رئيس تنفيذي لشركة نفط كبرى، وقال إن الانخفاض في أسعار النفط الخام أضر حقاً بشركات التنقيب والإنتاج الصغيرة في جميع أنحاء العالم. وقد علق عديد من الشركات جهودها للتنقيب عن مخزونات جديدة، كما انخفض الإنفاق الرأسمالي على الطاقة بشكل كبير.

تخمة المعروض

وعلى الرغم من انخفاض الأسعار، عملت الشركات على رفع إنتاجها من الآبار القائمة. وكانت النتيجة تخمة المعروض النفطي في الأسواق، الأمر الذي فاقم انخفاض الأسعار في هذه المرحلة، لكننا قد نشهد نقصا في المعروض بعد عدة سنوات. إضافة إلى ذلك، يتراجع الإنتاج من الآبار القائمة بنحو مليونين إلى ثلاثة ملايين برميل يوميا من أصل 95 مليون برميل في المجموع، في مقابل استمرار نمو الطلب من الاقتصادات المتقدمة والناشئة طالما لم ندخل في مرحلة ركود اقتصادي عالمي. الأسعار قد تبقى عند مستوياتها الحالية أو تنخفض قليلا لبعض الوقت، فإن استطعنا التحمل حتى نهاية العقد فسنشهد سعر خام غرب تكساس الوسيط مرة أخرى عند مستوى 70 دولارا أو أعلى من ذلك.

وأخيرا، فقد خصصنا بعض الوقت في كل جلسة لمناقشة ظاهرة دونالد ترامب. ففي الجلسة الأولى بداية أغسطس، كان أغلب الحاضرين يعتقد أن نجم ترامب سيأفل قريباً، لكن بحلول جلسة نهاية الشهر، بدأ المشاركون يأخذونه أكثر على محمل الجد. وكان رأيهم أن سبب نجاح ترامب (حتى الآن) يتجاوز ميل الشعب الأميركي لتبجيل المشاهير أو تقدير الأسماء المعروفة. ولمست لديهم شعورا بأن ثلاثة أرباع الأميركيين غير راضين عن الاتجاه الذي تسلكه البلاد، ويريدون وجهاً جديداً في واشنطن يكون ملتزماً بتغيير الوضع الراهن.

ربما كانت مواقف ترامب غير عملية، لكنه يمنح الناس الشعور بأنه سيفعل شيئاً ما ليضع أميركا مجددا على مسار أكثر إيجابية. وربما يستفيد ترامب من حقيقة أن المرشحين الجمهوريين الآخرين لا يحظون بإعجاب الجماهير، حيث اضطر جيب بوش إلى الابتعاد عن الشعارات التقليدية للجمهوريين بتخفيض الضرائب وتسهيل التشريعات وتقييد الحقوق الإنجابية للمرأة، وطرح بدلا منها أفكاره الخاصة.

على الجانب الآخر، رأى معظم الحاضرين أن هيلاري كلينتون أوقعت نفسها في ورطة بسبب قضية البريد الإلكتروني الخاص، لكن الانتخابات الرئاسية لاتزال على بعد خمسة عشر شهراً، ومن المرجح أن تنجو كلينتون من هذا القضية المثيرة للجدل، لأن بقية المرشحين المحتملين للحزب الديمقراطي لن يستطيعوا منافستها في جمع الأموال للحملة الانتخابية.

* بايرون واين ، نائب رئيس شركة بلاك ستون

back to top