اصطياد لحظة فرح

نشر في 16-12-2015
آخر تحديث 16-12-2015 | 00:01
 طالب الرفاعي نشأت في منطقة "شرق" في فريج "القضيبي"، ومن ثم فريج "بورسلي"، وكان للبحر حضور كبير في طفولتي، فحينئذ لم يكن العالم منكشفاً على مواقع الإنترنت، ولا علاقات شبكات التواصل الاجتماعي، فكان البحر، هو الملعب وهو الملجأ، وهو المتعة الأجمل، في بلد يحتل الصيف الحار معظم أشهر السنة فيه. هناك على شاطئ بحر هادئ تعلمت صيد السمك، وعشقت علاقتي بخيط الصيد، وسنارة الصيد، وأنواع الطعم الذي نلتقطه من أماكن مختلفة، كي نحتال به على السمك، وننعم بصيده. وقتها كنت أمارس أنواعاً كثيرة من صيد السمك كاللعب مع أصدقائي، وكطعام نهنأ به نحن الأطفال ونأكله مشوياً قرب الساحل، وأحياناً كنت أتحدى نفسي، وأكرّس ساعات كي أعود إلى بيتي وكيسي ثقيل بصيد وفير، تفرح به أمي.

في ذلك العمر، لم أكن لأقف أمام الفرح، وما تأملت وجهه الباسم، ولا ظننت يوماً أنه "عابر في زمن عابر". أبداً لم أع أن زمناً سيأتي عليَّ يصبح فيه قطف لحظة الفرح والتمتع بها يشبه صيد السمك، وأنه يلزم التسلح بخيط وسنارة وحيلة، وأن وصلك وتواصلك بالفرح هو ممارسة، تتصلب وتقسو حين تبتعد عنها، وتلين وتزهو حين تعايشها.

عشت طفولتي بلهو، ودخلت مراهقتي باهتمام بالأدب والفن، وعبرت شبابي وكتابة قصة قصيرة آسرة حلم جميل يدغدغ روحي. لكن، بسبب انفتاح الأجواء الفكرية والسياسية في الكويت، فلقد أتيحت لي فرصة كبيرة وجميلة بمخالطة الكثير من الأحبة والصحب، وكان أن طبعوا حياتي بميسم فكرهم الإنساني الرحب، وذلك ما انسحب على سلوكي في الحياة والأدب.

هناك قرب شاطئ البحر، ومع أقراني تعلمت أبجدية فرح البحر. فرح اصطياد سمكة تلمع بانتفاضاتها وعشقها للحياة. ويلمع بعينيّ وقلبي فرح امتلاكها. هناك قرب شاطئ البحر تعلمت أن الصيد يأتي بالسمك، وأن السمك يرش قلبي ببلل الفرح. دون انتباهي تسرب ذاك لروحي، ولم أكن أعي ما يعنيه. لكن اليوم أراني أعرف معنى ذلك؛ وأعرف أيضاً كيف أن صيد السمك ممارسة ملهمة، وهو أهدأ وأسهل بكثير من صيد الفرح. صيد السمك يكون من بحر مياه، وصيد الفرح من حضن مواجع.

من أين يأتي العربي ببحر يصطاد منه لحظة فرح؟ نعم، لقد غدا صعباً رمي خيطٍ في بحر الحدث اليومي وسحبه، وقد علقت به لحظة فرح راجفة. كل ما يحيط بمنطقتنا العربية مؤلم، وكل ما يجري اللحظة على أرضنا العربية مؤلم، فكيف بي أحتال لاصطياد لحظة فرح؟

تعودت العيش متسلحاً بالحلم، مردداً بيني وبين نفسي: "اللحظة القادمة هي رهاني". وما أكثر ما صح توقعي وجاءت تلك اللحظة الحلم. اليوم وأنا مازلت أردد جملتي عينها، يخفق قلبي بخوف غريب، فكثيرة هي الآلام ومخيف هو الواقع، وأكثر منه الخوف مما هو قادم. فلقد عاش جيلي يحلم بوطن عربي من المحيط إلى الخليج، وها نحن اليوم وقد تبخر الجزء الأكبر من حلمنا، وانكمش الحلم، حتى غدا الواحد فينا يمنّي النفس بوطن واحد عزيز وغير مقطّع الأوصال!

نتحايل على اصطياد لحظة فرح غالية، ولم يبق لنا إلا التفتيش في ما يحيط بنا، في جيوب أرواح أحبتنا الأقرب، وفي أسرنا، وفي محيط علاقاتنا، ونرفع رؤوسنا قليلاً إلى أصدقاء يتوزعون في أقطار وطننا العربي، نتلقّط أخبارهم، ونمني النفس بسعد يشملهم فيبلل لحظتنا بفرح عزيز.

اصطياد الفرح ممارسة حياتية يومية، وهي ممارسة صعبة كصيد السمك. صحيح أنني ابتعدت عن صيد السمك، لكنني بقيت دائماً أحنو إليه مثلما تحن روحي للحظة فرح أراهن أنها ستأتي في اللحظة القادمة.

back to top