عندما يكون التصالح بالإكراه

Ad

"جرائم يدان فيها المتهم بغير محاكمة"، تحت هذا العنوان كتبت مقالا في صحيفة الأهرام في عددها الصادر في السادس عشر من ديسمبر عام 2009، عن غياب الضمانات الدستورية والقانونية، في جرائم سرقة التيار الكهربائي في مصر، عندما يقوم أحد أفراد مباحث الكهرباء بتحرير محضر مخالفة ضد أحد المواطنين بسرقة تيار كهربائي مدعى بسرقته، فيضطر المواطن صاغراً إلى التصالح وسداد غرامة مالية هي ضعف قيمة التيار الكهربائي التي تصل إلى عشرات الآلاف من الجنيهات، وإلا فالويل والثبور وعظائم الأمور، إذا رفض التصالح وطلب إحالته إلى المحكمة، فستقطع مباحث الكهرباء التيار الكهربائي عنه، وستحول النيابة العامة القضية إلى المحكمة دون أن تحقق فيها باعتبارها إيراداً وفقا للمصطلح الذي تستخدمه النيابة العامة. وقلت في هذا المقال إنها ثغرة في مبدأ المشروعية، عندما لا تتاح للمتهم محاكمة منصفة عادلة، وعندما تتسلب النيابة العامة من دورها في البحث عن الحقيقة وفي تقييم أدلة الاتهام، ولا تحقق المحكمة دفاع المتهم في هذه القضايا، فهي تقضي بحبسه إذا لم يكن قد تصالح، وإذا تصالح أمامها فإنها تقضي بحبسه مع وقف تنفيذ الحكم. فتصبح مباحث الكهرباء هي الخصم والحكم، ذلك أنه من الجدير بالذكر أن نسبة مئوية من الغرامات المالية التي تسدد في هذه القضايا تؤول إلى مباحث الكهرباء، وتوزع كحوافز على رجالها.

تجريم نماء ثروة الموظف العام

كتبت مقالا على صفحات جريدة الأهرام، في عددها الصادر في 17 مايو سنة 2004 تحت عنوان "الرقابة على دستورية القوانين إلى أين" تناولت فيه الحكم الذي أصدرته محكمة النقض المصرية (محكمة التمييز) ببراءة محافظ الجيزة الأسبق عبدالحميد حسن من تهمة الكسب غير المشروع لمخالفة قانون الكسب غير المشروع للدستور، والذي يعتبر الحكم الثاني الذي تنتزع فيه هذه المحكمة، من المحكمة الدستورية اختصاصها برقابة دستورية القوانين، وكان الحكم الأول هو حكمها القاضي بإلغاء القانون رقم 83 لسنة 1969 بإعادة تشكيل الهيئات القضائية، وهو القانون الذي كان قد عزل بموجبه 169 قاضياً فيما يعرف بمذبحة القضاء.

إلا أن ما يعنيني في مقال اليوم هو الأسباب التي أسست عليها محكمة النقض قضاءها بعدم دستورية قانون الكسب غير المشروع في مصر، لقيام تهمة الكسب غير المشروع، في هذا القانون على قرينة افترضها المشرع من واقعة زيادة ثروة الموظف العام، مع عجزه عن التدليل عن أسباب هذه الزيادة بما يخالف المبدأ الدستوري بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، لأن نقض قرينة البراءة لا يكون إلا من خلال حكم قضائي يدين الموظف العام بارتكابه جريمة من جرائم الاستيلاء على المال العام، على أساس الجزم واليقين، لا الشك والتخمين القائم على نماء ثروة الموظف العام، ولا يتأتى ذلك إلا بدليل جازم تقدمه النيابة العامة إلى المحكمة يثبت ارتكاب المتهم لجريمة من جرائم الاستيلاء على المال العام.

وهو حكم لم يذهب بعيدا عن القضاء المستقر للمحكمة الدستورية العليا في مصر الذي وصم عدداً من القوانين التي افترضت ارتكاب المتهم للجريمة بقرينة قانونية، بأنها قوانين غير دستورية.

التصالح على فعل لم يجرمه المشرع

وهو التصالح الذي استحدثه المشرع بالمرسوم بقانون رقم 41 لسنة 1987 بتعديل قانون إقامة الأجانب، الذي أجاز قبول الصلح من المتهم في المخالفات الآتية:

1- مخالفة أحكام المواد 10 و1 و12 و14 فقرة 2 و3 والمادتين 15 و15 مكرر من قانون إقامة الأجانب.

2- مخالفة اللوائح والقرارات المنفذة لأحكام هذه المواد.

ولئن كنا نقدر للمشرع هذا الاتجاه في تقرير الصلح في الجرائم قليلة الخطورة، لتخفيف العبء على المحاكم، ولتجنب إطالة أمد الدعوى الجنائية أمامها في مثل هذه الجرائم، إلا أن الغرامات المالية التي فرضتها المادة 24 مكرر من قانون الإقامة، في حالة قبول الصلح من المتهم قد بلغت حدا من الجسامة لا يتناسب وأغلب هذه المخالفات، حيث تتكرر الغرامة عن كل يوم تأخير.

والأصل في العقوبة معقوليتها، فلا يكون التدخل بها إلا بقدر، نأيا بها عن أن تكون إيلاما غير مبرر، يؤكد قسوتها في غير ضرورة.

إلا أن أشد ما يؤخذ على نص المادة 24 مكرر سالفة الذكر أنها خالفت أهم مبدأ من مبادئ شرعية التجريم والعقاب الذي جسدته المادة (32) من الدستور فيما تنص عليه من أنه "لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون"، ذلك أن المشرع في قانون إقامة الأجانب وإن جرم وعاقب على مخالفة أحكام المواد 10 و11 و12 و14 فقرة 2 و3 والمادتين 15 و15 مكرر من هذا القانون.

إنه لم يجرم أو يعاقب على مخالفة اللوائح والقرارات المنفذه لأحكام هذه المواد، وما كان باستطاعته أن يجرمها، لأنه بذلك يكون قد فوض السلطة التنفيذية على بياض في تجريم أي فعل لم تتحدد معالمه أو العقوبة التي توقع فيه، بما يهدر المبدأ الذي نصت عليه المادة 32 من الدستور.

لأن السلطة التشريعية- وفقا لنص هذه المادة- هي التي تتولى أصلا بنفسها تحديد الجرائم وبيان عقوباتها، وليس لها بالتالي أن تتخلى كلية عن ولايتها إلى السلطة التنفيذية، وأن دور هذه السلطة يكون تابعا للسلطة التشريعية ومحددا على ضوء قوانينها، فلا تتولى بمبادرة منها (من خلال اللوائح والقرارات التي تصدرها) تجريم أفعال لا سند لها من قانون قائم (الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا في مصر في القضية رقم 24 لسنة 18ق دستورية- جلسة 5 يوليو 1997).

وبذلك يكون التصالح على اللوائح والقرارات المنفذة لأحكام المواد سالفة الذكر، قد ورد على جرائم لا وجود لها أصلا، لأن القانون لم يجرمها.

وقد أنصف المشرع الحقيقة من نفسه عندما نصت المادة 24 سالفة الذكر على أنه "وفي جميع الأحوال (التي يتم فيها التصالح) لا يجوز أن يزيد مبلغ الصلح على الحد الأقصى لعقوبة الغرامة المقررة للجريمة التي يتم التصالح عليها "بما يؤكد أن التصالح لا يجوز عن فعل لم يجرمه المشرع ولم يحدد له عقوبة.

ومن هذه القرارات القرار الصادر بإلزام المقيم بأن يخطر إدارة الجوازات والهجرة بتجديد جواز سفره، وهو القرار الذي أثار أزمة في أواخر 2014، وهي الأزمة التي تناولتها في ستة مقالات متتالية على صفحات هذه الجريدة اعتبارا من 28 ديسمبر 2014.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.