بعد عام 1990 بدأ المشهد الثقافي يأخذ شكلا مغايرا عما كان عليه قبل ذلك العام. وكان المشهد منذ ذلك التاريخ لمصلحة الأصوات الثقافية الكويتية التي واكبت حسابات ما بعد الاحتلال والتحرير. نشطت الإصدارات وأخرجت الساحة مجموعة من الأدباء وظهرت أسماء شعرية مهمة تتسيد اليوم المشهد الشعري في الكويت.

Ad

ولكن الحركة الصحافية المواكبة لهذا التغير كانت أقل من الطموح وأقل مستوى من النشاط الثقافي للصحف الكويتية قبل هذا العام، بعد أن هاجرت من البلاد أقلام مهمة ودخلت البلاد أسماء أخرى امتهنت الثقافة الصحافية كعمل يسير لا يتطلب جهدا إبداعيا.

والحادثة التي سأذكرها حادثة مشهورة ولكنها مثال على ما حدث. استدعت إحدى الصحف الصحافي يوسف بزي للإشراف على صفحتها الثقافية. وكان الرجل يرى أن الكويت تفتقد للثورة "الحداثية" في القصيدة وأن ما يكتبه الشباب لا يمت للقصيدة الجديدة التي يبشر بها بصلة، فعمد شاعران شابان في ذلك الوقت إلى "سلق" قصيدة من النوع الحداثي الذي يعجب به الأستاذ بزي.

ولا أذكر ما ابتدعاه في جلسة قصيرة جمعتهما ولكنها قصيدة من نوع "السماء تمطر خرافا بيضاء والبحر يتكئ على سمكة" ووقعاها باسم وهمي لفتاة كويتية وأرسلاها له.

نشرها الأستاذ بزي مبشرا بما طرحه وأن القصيدة الجديدة في الكويت قادمة بقوة. ما تلا ذلك كان فضيحة للصحافي أنهى بها رحلته مع القصيدة المبتكرة.

صاحب الأستاذ يوسف بزي مجموعة من صحافيي الثقافة الجديدة والذين احتلوا مكاتب من سبقوهم من جيل ما قبل عام 1990. وهو جيل صارم لا يجامل ولا يهادن حين يتعلق الأمر بالنشر الأدبي وكانت سلة المهملات تحت أقدامهم ملجأ أغلب هذه الأقلام التي تتوهم أنها تكتب أدبا.

كان الأستاذ وليد أبوبكر، على سبيل المثال، حين ينشر قصة أو قصيدة لشاب جديد يعلن ولادة شاعر أو قاص حقيقي يستحق الرهان. في ذلك الزمن الذي سبق عام 1990 كانت الصفحة الثقافية تعادل كتابا وأكثر بمقاس اليوم. تقرأ لأستاذنا محمود أمين العالم ورجاء النقاش وفريدة النقاش وصفحة كاملة لصلاح عيسى في تباريح جريح لا تترك الصفحة حتى تنهيها.

تقرأ صفحة كاملة لجورج جرداق من رأس الصفحة حتى ذيلها. تقرأ لنبيه البرجي وغيره كثيرين. كانت تلك أزهى أيام الصحافة الثقافية في الكويت.

أما الجيل الحالي من كتاب الثقافة فهو جيل ذكي عمد الى فهم طبيعة المثقفين والكتاب ومكانتهم الاجتماعية ودورهم في المؤسسة الرسمية والشعبية. قسم هذا الجيل الكتاب في الكويت الى ثلاث فئات. الفئة الأكثر منفعة له وهي فئة تضم أسماء مرموقة وفاعلة في هاتين المؤسستين، وفئة ثانية ترك بينه وبينها شعرة معاوية فربما اقتربت من التأثير يوما ما.

وفئة أخيرة يعلم بأن تأثيرها مستحيل وهي غالبا ما تضم كتابا كويتيين بعيدين تماما عن المؤسستين والكتاب البدون. وارتبط هذا الجيل بالفئة الأولى ارتباطا تحكمه المصلحة، يمتدح كل ما تكتب ولو كان تافها لا يستحق الإشادة. وتجاهل عن عمد البقية.

هذا الجيل الجديد من المثقفين ليس خطرا على مصداقية النقد فحسب، وإنما يمتد خطره لزملائه الآخرين الذي يضعون مصداقيتهم قبل علاقاتهم الشخصية وارتباطهم بالأسماء الأكثر تأثيرا.

وما يؤسف له فعلا أن أصواتهم أعلى رغم أننا جميعا نعلم مدى تزلفهم وفقدانهم لهذه المصداقية. الوحيدون الذين يتجاهلون هذه الحقيقة هم الذين يبحثون عن هذا الإطراء الزائف ويعيشون وهمه.