طوال عقود، ركّزت سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط على مسألتين: إسرائيل والنفط، وما كان من الصعب مساعدة إسرائيل في الحفاظ على أمنها لأن الإسرائيليين أنفسهم نجحوا في ذلك، لكن الحرص على تدفق النفط بحرية كان أكثر صعوبة، بما أن معظمه ملك لدول ملكية أو دول دكتاتورية هشة، لكن الولايات المتحدة وحلفاءها توصلوا إلى طريقة، وساهم هذا التشديد على إسرائيل والنفط في بقاء الاستراتيجية الأميركية متجانسة على نحو مذهل، حتى مع تبدل الإدارات في البيت الأبيض، فكان هدفها بناء الاستقرار على شراكات مع الدول المحلية عندما يكون ذلك ممكناً، وبالعمل المباشر إن بدا ذلك ضرورياً.
بدأت التطورات بعد ذلك تأخذ منحى مختلفاً، فقد تخلت إدارة جورج بوش الابن عن تشديد الولايات المتحدة القديم على الاستقرار، وحاولت تبديل وجه المنطقة من دون أن تؤمن الموارد الاستراتيجية التي تحتاج إليها، بل اكتفت بدلاً من ذلك بالإطاحة بالنظام القديم في العراق، وأملت أن ينشأ نظام أفضل. نتيجة لذلك انفجر الاستياء حيال أنظمة المنطقة المستبدة في الدول الملكية أو الدكتاتورية التقليدية على حد سواء، وقد ساهمت وسائل التواصل العالمية وتكنولوجيا المعلومات في تأجيج هذا الانفجار، وهكذا انتشرت حركات جديدة ثورية، ودينية، متعددة الجنسيات، وعنيفة في المنطقة وتأصلت فيها، وواصلت إيران تقويض النظام القديم، حيثما صمد، لاعبة غالباً ورقة الطائفية ومستغلة العداء تجاه إسرائيل.نتيجة كل هذه القوى يمر الشرق الأوسط اليوم بتحول جذري يفوق السيطرة الأميركية، إذ يعتقد جودا غرونشتاين أننا سنشهد في المستقبل القريب إلى المتوسط «منطقة تتشكل فيها ائتلافات الأمر الواقع والمرحلية بغية معالجة المصالح المشتركة في أطر معينة، مع أن البلدان ذاتها قد تجد نفسها في جانبين متعاديين في صراع آخر»، ولا شك أن هذا سيتحول في النهاية إلى نظام مثلث تنافس فيه ثلاث كتل على السلطة، ستشمل الأولى الأنظمة المتوارثة مثل الأنظمة الملكية والمستبدة الوطنية التقليدية، وستقود هذه الكتلة المملكة العربية السعودية الأكثر حزماً أخيراً، والقوية اقتصادياً، والمتسلحة جيداً، وستقود إيران الكتلة الثانية، التي ستشمل مجموعة متنافرة من عملائها وأتباعها، بمن فيهم نظام الأسد في سورية، إن استمر حزب الله في لبنان والحوثيون في اليمن، والأهم من ذلك الميليشيات الشيعية والحكومة في العراق، ولا نعرف يقيناً ما إذا كانت عودة إيران إلى النظام الاقتصادي العالمي مع رفع العقوبات ستزيد لجوءها إلى المجموعات التابعة لها لزعزعة المنطقة، إلا أنها ستقوي بالتأكيد طهران، وقد تدفع بروسيا والصين إلى لعب دور أكثر تأثيراً في الشرق الأوسط.وستتمحور الكتلة الثالثة حول ما يُدعى الدولية الإسلامية (داعش) في غرب العراق وشرق سورية، وحتى وقت ليس ببعيد افترض كثيرون ممن لا يعرفون تطورات هذه المنطقة جيداً أن هذه المجموعة لن تدوم طويلاً، فوحشيتها حسبما ظنوا ستنفّر الناس من حكمها، وهكذا ستنجح القوى الأمنية العراقية، بدعم من الولايات المتحدة وسائر أعضاء الائتلاف المتعدد الجنسيات، في استعادة سيطرتها وتصد المتطرفين أو تنزل بهم هزيمة نكراء، كذلك ستتوصل سائر دول العالم إلى طريقة للحد من تدفق المجندين والموارد التي تغذي هذه الحركة، لكن الوضع يبدو مختلفاً اليوم، فقد ينجو تنظيم «داعش» في الوقت الراهن، وبدل أن يكون مجرد موجة عابرة من الوحشية، فقد يتحول إلى جزء أساسي وبالغ الخطورة من نظام الشرق الأوسط الجديد.لن يروق هذا الخبر للأميركيين: الأنظمة الثلاثية. أولاً، سيحمل معه صراعاً بالوكالة متفشياً وكوارث إنسانية، لا شك أن العنف المتواصل في سورية والعراق واليمن وليبيا سيعتمل وينتشر، وسينمو، كما نشهد اليوم، الضغط الذي يتعرض له قاطن البيت الأبيض لاتخاذ أي خطوات، لكن في معظم الحالات ستشمل هذه الخطوات «القصف» بدل التدخل إلا أن هذا لن يوقف العنف، بل سيدفع به إلى زوايا جديدة من المنطقة.ثانياً، سيكره الأميركيون واقع أن كل الكتل الثلاث ستكون معادية لإسرائيل والولايات المتحدة، وخصوصاً بغية نيل استحسان مواطنيها، وقد لا تتخذ هذه الكتل خطوات تُذكر لتحول هذا إلى عمل، لكن الأميركيين لا يحبون التعرض للانتقاد، حتى لو كانت مصالحهم متداخلة مع مصالح مَن ينتقدهم.ثالثاً، قد يشهد الشرق الأوسط الجديد انتشار الأسلحة النووية، لربما كان هدف إيران منذ البداية منع التدخل العسكري الأميركي، وقد تشعر طهران اليوم أن التمتع بقدرة على تطوير أسلحة نووية بسرعة يشكل رادعاً كافياً، ولكن من الممكن أيضاً أن تظن طهران أن الحصول على أسلحة نووية سيسمح لها بفرض مشيئتها على المنطقة بطريقة ما كانت متاحة أمامها من قبل، رغم أن كامل تاريخ العصر النووي يُظهر العكس، فإذا صح ذلك، فسيسعى السعوديون بدورهم على الأرجح للحصول على سلاح نووي، وهكذا تتمكن إحدى هاتين الدولتين على الأرجح من ردع الأخرى، لكن الشرق الأوسط سيصبح بالتأكيد مكاناً أكثر خطورة مع احتمال أن يؤدي أي خطأ في الحسابات إلى كارثة.رابعاً، قد تسقط أمم أخرى في قبضة متطرفين تابعين لـ»داعش» أو يحذون حذوه، فيبدو هذا وشيكاً في اليمن وليبيا، كذلك تواجه مصر والأردن، وربما بعض الدول الملكية في الخليج العربي هذا الخطر، وخصوصاً إن نجحت عقيدة هذا التنظيم في التطور والتحول إلى عقيدة تصور الحكومات المدنية والأنظمة الملكية التقليدية على أنها العدو الرئيس، لا على أنها غير سنية فحسب، وتُعتبر عقيدة «داعش» اليوم طائفية وثورية في آن واحد، وإن طغى البعد الطائفي، فثمة حدود ضمنية تحد من مدى انتشار هذه العقيدة، أما إذا سيطر البعد الثوري فلا حدود لها.خامساً، لن يروق هذا النظام الشرق أوسطي الجديد للأميركيين لأن الولايات المتحدة لن تتمكن من التحكم فيه، ورغم كل الكلام الذي قد نسمعه خلال الحملة الانتخابية المقبلة عن إعادة تأكيد «القيادة» الأميركية في المنطقة، لا تُعتبر التغييرات التي حدثت مجرد مسألة إرادة رئاسية فحسب، بل تشكل أيضاً انعكاساً لعوامل بنيوية عميقة ودائمة.يشير كل هذا إلى أن مَن يفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016 سيشعر، مهما كانت هويته أو انتماؤه، بالاستياء الكافي ليفكر بالتخلي عن أي التزام تجاه الشرق الأوسط، وقد ينفذ خطوة مماثلة، فما دامت إسرائيل تنعم بالأمان (وما دام احتمال مواجهة إسرائيل خطراً إقليمياً محدوداً لا يستطيع الإسرائيليون التصدي له بمساعدة بسيطة)، فسيواصل الدور الأميركي في الشرق الأوسط الجديد تراجعه.* ستيفن ميتز
مقالات
لمَ لن يروق نظام الشرق الأوسط الجديد للولايات المتحدة؟
31-07-2015