قاسم سعودي
يكتب الشعراء قصائدهم بالحبر الجاف أو بأقلام رصاص، على ورق أبيض عادة، أو ملون ربما، لا يهم. وحده هذا الشاعر يكتب قصائده بنصل سكين على رقعة من القلب.قاسم سعودي الذي عرفته أول مرة على "الفيسبوك" يكتب مقطوعاته الشعرية بطريقة مذهلة، والتقيته هذا العام في معرض الكتاب بالشارقة، ليأتي عكس توقعي له.
رسمت له صورة الشاعر الذي أكلته القصيدة الحادة والمؤلمة، وأخذت من روحه نزعتها إلى الحياة، لأجده إنساناً على نقيض قصيدته مفعماً بالحب والحياة. لم تفارقه ابتسامته طيلة الأيام التي قضيناها معاً. تخيلته حين يكتب يستل شخصاً آخر من داخله يكتب به كل هذا الألم الموحش الذي خلفته الحرب لنا وما تركه الخراب من إرث.قاسم سعودي يجمع أشلاء الضحايا من الشوارع، يقرأ قلوب الأرامل والأمهات الثكالى اللواتي فقدن كل سبب يمت للحياة ويعنيها. يكتب بعكازات الجنود الذين فقدوا قدرتهم على الوقوف والسير كما ينبغي. يكتب بأرواح عابرة تركتها أجسادها معلقة على الأبواب تزور أطيافها منامات الصبية التي تتذكرها ولا تهتم كثيرا بالسؤال الأهم: لماذا غادرت هذه الأرواح قبل أوانها؟ يحاول استعادة هذا العبث الذي أصاب بلاده من دون أن يكون مباشراً أو غنائياً."حين تغني زوجته في المطبخأو يناديه طفله الصغير بابالم يكن يسمعهما جيداًلم يكن يسمعهما بالمرةكانوا قد قطعوا أذنه اليسرىلأنه ببساطةلم يذهب إلى الحرب". ليس تصوير ما تركته الحرب على إنسان ما بعد الحرب، كتصوير الحرب ذاتها، حين تنتهي الحروب تترك ندبها على جلودنا، وتترك جروحها قصائد أكثر ألماً من ضجيجها بعيداً عنا.لا يدخل الشاعر ساحة الحرب هنا، ولا يفكر بها وما يسقط فيها من جثث وما تسيل فيها من دماء، لكنه يجمع حساباتها، ويحصى خسائرها التي خلفتها."لا تغلقوا أبواب المنازل مبكراًبعض الجثث تزور أطفالها كل ليلةوبعضها يخجل من ذلك".هذا الوجع الدائم الذي يكتبه يجعلنا نسمع صدى صوت المعارك، ولا نراها، يجعل من جثثها أجساداً حية تتردد في الأماكن التي رحلت عنها. لا يفكر إلا نادراً بمن أثثوا ساحة الحرب، ولا يهتم كثيراً بمن صفق لهم وهم يديرون رحاها، لكنه في مقطع وحيد في ديوانه "كرسي العازف" يشير إلى طاغية لا يمر في ذهنه كما يمر ضحاياه."روح الطاغيةهل تصعد إلى السماء؟وكيف لها أن تقف معنا قرب باب الرب؟وماذا ستقول للضحايا؟".ما يقدمه قاسم سعودي في نصه، هو ما يحتاجه شكل القصيدة، ليتطابق مع مضمونها، يجيد قصيدته، لتتناسب وتتناسق مع حالتها النفسية وألمها الذي لا يمكن لأشكال الشعر الأخرى أن تتناوله. منحه شكل القصيدة الحديث حرية الحركة، وابتعد عن رتابة ليّ عنق الفكرة التي يريدها، لتناسب قالبا يتحكم بها. وربما كان من القلة الذين استخدموا شكل القصيدة الجديد باتقان، محافظاً على صوتها الداخلى، وملغياً إطارها الخارجي لصالح فكرته.