حاول د. شريعتي تغيير مفاهيم كثيرة سائدة في المذهب الشيعي، بما فيها عقد مقارنة بين ما اعتبره التشيع الصحيح الذي أسماه «التشيع العلوي»، نسبة إلى الإمام علي بن أبي طالب وأئمة الشيعة الآخرين، وبين التشيع الذي أفرزه تاريخ إيران وبخاصة الدولة الصفوية بعد عام 1502 وأطلق عليه "التشيع الصفوي".

Ad

كانت قوى اليسار الإيراني عشية الثورة وقبلها بسنوات ضمن التيارات الرئيسة المحركة لها، ولكنها كما في دول وحالات عديدة في دول العالم الإسلامي، كانت مشتتة ملاحقة مؤدلجة، وغير قادرة في إيران خاصة، على منافسة القوى الدينية والراديكالية الشيعية المدعومة من بعض رجال الدين والمراجع الفقهية التي تحظى بالتفاف الشعب والطبقات الشعبية حولها، لأسباب دينية ومذهبية معروفة.

كان من أسباب ظهور هذا التيار، اتصال إيران بالغرب طلية العهد القاجاري (1794- 1925)، قبل صعود أسرة بهلوي، حيث أدى ذلك إلى ظهور تيارات جديدة أبرزها التيار اليساري والتيار الليبرالي، "اللذان ساهما بدورهما في نقل الفكر السياسي الإيراني إلى مجالات أرحب ساهمت في ظهور مفاهيم وجدليات جديدة". (الفكر السياسي الإيراني، د. سلطان محمد النعيمي، أبوظبي 2009، ص53).

وكان الفكر اليساري، يضيف د. النعيمي، قد بدأ بالظهور بصورة واضحة في إيران مع بداية القرن العشرين إثر اتصال الأقاليم المتاخمة لروسيا، عن طريق التجارة، أو عمل الإيرانيين في المدن الروسية، ويعتبر "ميرزا آقا خان كرماني" (ولد عام 1854) من أبرز المفكرين الإيرانيين، وأول من تناول قضايا من قبيل التوزيع العادل للثروة وتحديد الملكية وإلغاء الامتيازات الطبقية وغير ذلك. وكان المفكر الإيراني الآخر "عبدالرحيم طالبوف"، الذي يعد أول كاتب إيراني يقدم العلم الحديث للإيرانيين، وكان قد قضى معظم حياته في القوقاز، وكان مساهما في النشاطات الروسية الاشتراكية والشيوعية، كما كان متهما بموالاته للروس، وقد هاجمه رجال الدين واتهموه بالإلحاد وحرّموا قراءة كتبه. كما ظهرت في تلك الفترة المبكرة بعض الجمعيات ذات التوجه الاشتراكي مثل جمعية الأمل أو الطموح (جمعيت رهمت)، وحزب العدالة (حزب عدالت)، وذلك قبل ظهور "حزب كمونيست إيران"، وهو الحزب الشيوعي الإيراني عام 1920. وبعد سقوط الدولة القاجارية منعت الدولة الحركات اليسارية بموجب قانون 1931، واعتقلت مجموعة الدكتور "آراني" التي عرفت بـ"مجموعة الـ 53"، وكان أغلبهم من أعضاء الحزب الشيوعي الذين اطلعوا على تلك الأفكار بعد دراستهم في الغرب وخاصة في ألمانيا. وقد خلع رضا شاه عن السلطة في إيران على يد الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية لتعاطفه مع ألمانيا النازية ودول المحور، وتعيين ابنه محمد رضا شاه ملكا على إيران، وفي سبتمبر 1941 أعلن خمسة وعشرون من "مجموعة الـ 53" تأسيس "حزب توده" (حزب الشعب) الذي استطاع أن يتحول إلى أهم وأكبر حزب في إيران، إلا أن شعبيته الكاسحة تراجعت بعد محاولة اغتيال الشاه عام 1948، وما نجم عنها من قمع واعتقالات إلى جانب اتهام "حزب توده" بالعمالة للاتحاد السوفياتي "عندما أيد وشجع انفصال أذربيجان وكردستان عام 1945، وعندما ناهض تأميم النفط، واتهم بوصفه حزبا علمانيا ملحدا معارضا للإسلام والقرآن والقومية وعدواً للدستور والملكية الخاصة". (د.النعيمي، ص56).

 وتزايد انقسام حزب توده واليسار الإيراني خلال ستينيات القرن وسبعينياته تحت تأثير الانقسام الروسي- الصيني، وبسبب الجدل حول وسائل تغيير النظام الإيراني، وانحياز الجيل الشاب إلى الكفاح المسلح "ففي عام 1964 حدث أول انقسام في حزب توده عندما أسست مجموعة صغيرة من مستنيري حزب توده الحزب الكردستاني الديمقراطي ورفعوا شعار "الديمقراطية لإيران، والحكم الذاتي لكردستان". (د. النعيمي، 56).

 وإلى جانب "حزب توده"، ظهرت ميليشيات "فدائيان خلق" (فدائيو الشعب) التي تبنت الكفاح المسلح، ولكن البوليس السري "السافاك" قتل العدد الأكبر من مؤسسي هذا التنظيم، قبل أن ينقسم بدوره عام 1976.

وظهرت كذلك "المنظمة الثورية لحزب توده" المؤيدة لأفكار "ماوتسي تونغ" وأفكار "كاسترو" في التجربة الكوبية.

أما الجماعة ذات الجذور اليسارية والتي لا يزال لها وجود بارز في الساحة فهي "منظمة مجاهدي خلق" التي تأسست عام 1965 يقول د. النعيمي عن هذا التنظيم، واسمه بالفارسية "سازمان مجاهدين خلق":

"تبنت اللجنة المركزية لهذه المنظمة "الأيديولوجية الإسلامية" واعتبرتها أيديولوجية رسمية لمجاهدي خلق، وظلت هذه المنظمة على مدى ست سنوات تقوم بدراسات تتعلق بمختلف النظريات والأبحاث من قبيل التاريخ الإسلامي، وتاريخ الحركات المناهضة لاستعمار إيران وأيديولوجيات وتجارب الثورات العالمية مثل الصين وكوبا والجزائر وغيرها، وأسفرت تلك الدراسات عن تفاوت فكري وأيديولوجي بين هذه المنظمة وفكر المفكر الإيراني "علي شريعتي"- مفكر الثورة الإيرانية كما يطلق عليه- حيث تلاقت رؤى وأفكار كل من شريعتي ومنظمة مجاهدي خلق في ذلك الوقت حول اعتبار الإسلام عقيدة سياسية ثورية ونموذجا لنظام شامل يجب العمل به لإقامة النظام المثالي في الحياة".

ويضيف متتبعا تطور أوضاع المنظمة: "لقد أسفرت السنوات الثلاث الأولى من قراءات هذه المنظمة عن تحولات في تشكيلاتها، حيث دخلت مرحلة العمل العسكري المسلح ضد النظام البهلوي، ولاقت الدعم المالي والمعنوي من القوى الدينية والوطنية الدينية والبازار، كما تلقت دعما من رجل الدين المشهور آية الله طالقاني، وفي عام 1971م استطاع "السافاك" اعتقال خمسة وثلاثين من قادة هذا التنظيم، الأمر الذي أدى إلى انزوائه لفترات طويلة".

ويعرف القارئ العربي الكثير عن المفكر د. علي شريعتي، وأقل القليل عن آية الله محمود طالقاني (1919- 1979) الذي توفي في العام نفسه من نجاح الثورة، والذي يقول عنه "أروند إبراهيميان" الباحث الإيراني المعروف "إنه كان رجل الدين الأكثر شعبية في طهران إبان الثورة، وأحد المؤيدين البارزين لمحمد مصدق في حركته عام 1953 ضد الشاه، ومن ذوي الصلات الوثيقة مع كل أطياف المعارضة بما فيها المجموعات الماركسية، كما أنه نظم التجمعات الجماهيرية في عام 1978"، ويضيف: "لو لم يلق حتفه بعد الثورة مباشرة، فلربما كان قد قدم ثقلا ليبراليا موازنا للخميني" (تاريخ إيران، ص 269).

 والأرجح في اعتقادي أن تيار السيد الخميني ومن كان في ركاب قيادته، كان سيعزل طالقاني، مثل غيره، إن واصل إزعاجه للولي الفقيه وتياره بالأسلوب المعروف، أي تجفيف منابع قوته وشعبيته.

ويرى د. النعيمي أن "التيار التقدمي الإسلامي"، كما يسمي الباحث الإماراتي هذا الجهد المشترك للدكتور شريعتي وآية الله محمود طالقاني وغيرهما "استطاع التوفيق بين تجارب الحركات اليسارية العالمية، وممازجتها مع الأيديولوجية الإسلامية، ليظهر فكرا جديدا في إيران عرف بـ"اليسار الإسلامي".

سعى "اليسار الإسلامي" نحو تحقيق أهداف العدالة الاجتماعية وشكل من أشكال الاشتراكية أو المجتمع اللا طبقي عبر مفاهيم ووسائل اعتبرها التيار أكثر انسجاما مع التراث الديني والاجتماعي. فقد وجد "آية الله محمود طالقاني" أن الإسلام متفق مع الاشتراكية والديمقراطية، وذهب د. شريعتي إلى "أن الإسلام سيحرر الظالم والمظلوم معا"، لتختفي كل صور التمييز الطبقي والسياسي.

واعتمد التيار التقدمي الإسلامي، كما يقول د. النعيمي، على مفاهيم منها أن الإنسان في الإسلام مدعو إلى تغيير ما في نفسه أولا قبل أن يطلب العون من الخالق لإصلاح حاله ومجتمعه، وفي تحليل تاريخي لصراع الخير والشر، تبنى د. شريعتي رأيا يقول إن المجتمع البشري انقسم منذ اقتتال ابني آدم قابيل وهابيل إلى معسكرين، المستكبرين والمستضعفين، حيث استخدم كلاهما الدين وسيلة لتبرير ما يفعله: "ففي حين استخدمه معسكر قابيل كوسيلة لخداع البشر وتبرير الأوضاع الظالمة القائمة، والحصول على مكاسب سياسية واقتصادية واجتماعية غير شرعية، استخدم مسعكر هابيل الدين لتحقيق الوعي والثورة والعدل". (ص63).

وحاول د. شريعتي تغيير مفاهيم كثيرة سائدة في المذهب الشيعي، بما فيها عقد مقارنة بين ما اعتبره التشيع الصحيح الذي أسماه "التشيع العلوي"، نسبة إلى الإمام علي بن أبي طالب وأئمة الشيعة الآخرين، وبين التشيع الذي أفرزه تاريخ إيران وبخاصة الدولة الصفوية بعد عام 1502 وأطلق عليه "التشيع الصفوي". ففي حين وجد أن الدولة الصفوية جعلت من التشيع دينا شعائريا احتكرته مؤسسة دينية رسمية دعت إلى العزلة وفصلت المذهب الشيعي عن المسائل السياسية والاجتماعية معتبرة أن غيبة الإمام الثاني عشر توجب على الشيعة الانتظار والعزوف عن المشاركة في النواحي السياسية حتى عودته، وجد شريعتي أن التشيع العلوي يمثل الصورة الحقيقية للمذهب الشيعي الذي يدعو إلى ضرورة أن يتصف المجتمع بالعدل ويدعو إلى أن يتولى المؤمنون زمام أمورهم، وذهب في مفهومه للغيبة على أنها ليست مدعاة للتقية والانزواء، وإنما على المسلمين أن يتولوا شؤونهم بأنفسهم تحت قيادة مؤمنة ومستنيرة تساعد الجماهير على تحقيق وعيها".

خمسة عوامل سهلت لتيار آية الله الخميني تجاوز كل هذه التيارات، والهيمنة على مصير الثورة عام 1979، سنرى ما هي في المقال القادم.