كتب الروائي الفرنسي العظيم فيكتور هوغو في سنة 1877 «الجيوش الغازية يمكن مقاومتها لكن الأفكار الغازية لا يمكن مقاومتها»، فقوة الأفكار هذه الأيام سواء كانت للخير أو الشر يجب أن نأخذها بعين الاعتبار، وخصوصا عندما نفكر في الراديكالية الإسلامية، فالهجمات الإرهابية الأخيرة في فرنسا والكويت وتونس تذكرنا بأهمية أن ندرك أن خلف هذه الاعتداءات أفكاراً خطيرة لا مجرمين غاضبين ومحبطين فقط.
وإن الحركات الجهادية الإسلامية العنيفة لا تشكل خطرا وجوديا على أوروبا أو أميركا الشمالية، فمن الممكن أن تتمكن تلك الحركات بين الحين والآخر من تنفيذ عمليات إرهابية مميتة لكن ليس لديها فرصة لتدمير المجتمعات الغربية أو السيطرة عليها، والمحاولات المذعورة للزحف على البلاد الإسلامية والقضاء على التهديد جاءت بنتائج عكسية، حيث أدت إلى زيادة جاذبية التطرف الإسلامي فقط.وإن معظم المسلمين يرفضون النماذج القاسية للإسلام لكن كثيرين منهم يتعاطفون مع فكرة الكفاح ضد إملاءات الغرب وإعادة الدين إلى قوته وأمجاده السابقة، ومن الخطأ التأكيد على أن أقلية صغيرة فقط من المسلمين يدعمون أفعال المتطرفين أو أن الفصائل الأصولية اختطفت الدين وهم لا يمثلونه بالمرة، فالراديكاليون الإسلاميون يتمتعون بدعم كاف ليشكلوا تهديدا خطيرا في مناطقهم من العالم، ومن الأهمية بمكان فهم كيف حصل ذلك.فالتوجهات الإسلامية المحافظة ذات الطبيعة القاسية والراديكالية موجودة منذ العصور الأولى للإسلام، لكن معارضة تلك التوجهات مرارا وتكرارا تمت من مدارس فكرية إسلامية أكثر تسامحاً واعتدالاً، ففي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين اعتقد الكثير من المفكرين المسلمين- وأشهرهم جمال الدين الأفغاني- أن تبني العديد من المثل العليا التي طُويت في الغرب خلال فترة التنوير هو الطريقة الوحيدة لتشجيع التقدم، فكتب الأفغاني وغيره أن رفض الإسلام للعلوم الغربية والتقدم هو تفسير خاطئ للقرآن.لكن مع مرور الوقت وخلال القرن العشرين خسر المصلحون الإسلاميون مواقعهم لمصلحة القوميين العلمانيين الذين أكدوا أن العلمانية هي الطريق للحداثة، لكن وعد العلمانية أثبت أنه وعد أجوف، حيث إن دولاً مثل مصر وليبيا والعراق وسورية تغرق الآن في الاستبداد والفساد، وهذا يوفر أرضية خصبة لنماذج إسلامية رجعية وعنيفة ومعادية للغرب.وإن هذه التوترات مستمدة من العديد من الجذور الفكرية، وربما أن أهم مصدر حديث هو كتابات المفكر المصري سيد قطب، إذ جادل مع غيره من الأصوليين أمثال الفيلسوف الباكستاني أبو الأعلى المودودي أن الإسلام الحقيقي تم اختراقه وإفساده من الأفكار الخارجية، وعندما تتم استعادته سينتهي قرنان من الإذلال على أيدي القوى الإمبريالية الغربية ومؤخراً دولة إسرائيل الوليدة، وسينصر الله مرة أخرى المسلمين ضد أعدائهم الذين وصفهم قطب «بالصليبيين واليهود».لقد حاولت الدكتاتوريات في شمال إفريقيا والشرق الأوسط قمع المحافظين الإسلاميين، فأعدم الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر سنة 1966 قطب، وذلك للقضاء على الإخوان المسلمين، وفي واقع الأمر فإن هذه الحملات أدت إلى تقوية الإسلاميين المحافظين الذين ساعدهم إيمانهم على النجاة من القمع، وعملوا على إقناع الشباب المسلمين الساخطين بأن التطرف هو الحل الممكن الوحيد لضعف مجتمعاتهم وانعدام الفرص.ومن المؤكد أن مواجهة الأفكار بالوسائل العسكرية ستؤدي إلى الهزيمة، فعندما ترسل القوى الغربية جنوداً إلى الدول الإسلامية، وتحاول إخضاع المتطرفين بالقصف أو تدعم الدكتاتوريات الوحشية، أو تقدم الدعم الأعمى للسياسات الإسرائيلية، فإن تلك القوى تؤكد ادعاءات الراديكاليين الإسلاميين؛ مما يعني إلقاء المزيد من المناصرين إلى أحضان هؤلاء. فجبهة القتال الحقيقية هي حلبة الأفكار، وعوضا عن الردود المسلحة والمذعورة المبالغ بها، فإن ما نحتاج إليه هو التبادل الثقافي، فهناك العديد من المفكرين الجديين في المجتمعات الإسلامية الذين يرغبون في إحياء دعوة الإصلاح لاعتناق بعض أفكار التنوير الغربي: قيمة العلم، وأهمية التسامح الليبرالي، والحاجة إلى المناقشات الحرة والمفتوحة، فيتوجب على المفكرين الغربيين الذين يفهمون الإسلام ويتحدثون بعض اللغات الكثيرة لمعتنقيه أن يدعموا هذه التحركات الفكرية.فالصقور في الغرب يمكن أن يرفضوا تلك الأساليب ويصفونها بالضعيفة، وتأثيرها يمكن أن يكون محدودا على المدى القصير، لكن من المؤكد أن دورها سيكون حيويا على المدى الطويل، فالقوة التي هزمت الشيوعية في أوروبا- وهي أيديولوجية أخطر بكثير من الإسلام الراديكالي- لم تكن ببساطة الاحتواء العسكري، بل أيضا قوة الأفكار والمثل العليا.دانيال تشاريوت & سكوت مونتغمري*دانيال شاريوت أستاذ الدراسات الروسية والأوراسية في جامعة واشنطن، وسكوت مونتغمري عضو هيئة تدريس في كلية هنري جاكسون للدراسات الدولية في جامعة واشنطن.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
إحياء التنوير الإسلامي
06-08-2015