كانت المرجعية الشيعية، خاصة داخل إيران، أولى ضحايا "ولاية الفقيه"! فلا بد أن نتذكر ونلاحظ أن الكثير من الفقهاء ورجال الدين والمراجع قد فقدوا، بنجاح الثورة وهيمنة دولة ولاية الفقيه، ما كانوا يتمتعون به من حرية تعبير وحركة، وبخاصة إن اختلف اجتهادهم السياسي عما يراه الولي الفقيه ومرشد الثورة، أو إن تجرؤوا على انتقاد أي مظهر من مظاهر السياسة الرسمية في أي مجال، وبالطبع لم يكن الفقهاء ورجال الدين وحدهم الخاسرين لحريتهم.

Ad

 لقد دخل ساسة إيران ومثقفوها وقادة أحزابها ونقاباتها ومؤسسات المجتمع المدني فيها يطلبون، كما يقال، قرنين، فعادوا بلا أذنين، وقد انهار نظام الشاه واختفت أسرة بهلوي عن السلطة، ولكن حلت محلها حكومة دينية عقائدية لا علاقة لفكرها بالقرن الحادي والعشرين، تتحكم بكل صغيرة وكبيرة من مناحي حياة الشعب الإيراني وقومياته. وكان الإيرانيون دائمي الشكوى من جهاز واحد للاستخبارات في زمن الشاه، وهو جهاز "السافاك"، بينما تحولت الاستخبارات اليوم في إيران المعاصرة إلى وزارة وهيئات وأجهزة في الداخل والخارج.

نجحت الثورة حقاً في إسقاط النظام الملكي، ولكنها أقامت بدلاً منه نظاما غير واضح المعالم لا يفهمه رجل القانون ولا أستاذ العلوم السياسية ولا الباحث في الأيديولوجيات، نظاما غير قادر على كسب ثقة شبعه أو حب جيرانه أو احترام العالم، وغير مناسب لإمكانات إيران الهائلة ومكانتها على الصعيدين السياسي والاقتصادي حتى المذهبي، فقد خسر الشيعة الكثير!

فلم تتسع الفجوة المذهبية بين السنّة والشيعة في العالم العربي الحديث يوماً كما هي اليوم، ولا أصدرت دور النشر العربية كتباً ومقالات ومنشورات نقدية حول "خطر الرافضة" و"الأخطبوط الشيعي" و"جاء دور المجوس"، وغير ذلك كالذي نراه اليوم، وقد لا تكترث إيران كدولة كبرى قوية في المنطقة ولا تتأثر مصالحها في الشرق الأوسط، ولكن الشيعة في الدول الخليجية والعالم العربي يدفعون اليوم وغداً ثمن هذا الشحن الطائفي والسياسي الإيراني في عموم المنطقة، واندفاع جماعات التشيع السياسي نحو المجهول. وكم كانت النتيجة ستكون مختلفة لو أخذت إيران، بدلا من نظام ولاية الفقيه، بالنموذج الديمقراطي الوزاري أو الرئاسي، فأبعدت رجال الدين عن احتكار إدارة البلاد، وتركتها للساسة وأهل الاختصاص والفنيين ورجال الأعمال، ونساء إيران وشبابها، ضمن نظام انتخابي متعدد الأحزاب، حر الاختيار، بإدارة شفافة مثل دول كثيرة، دون قمع مختلف مظاهر الحياة والحريات، وإجبار النساء على ارتداء الحجاب ومعاقبة كل رجل يضع ربطة عنق في ياقة قميصه أو أي شاب يرتدي قميصاً أو بنطالا من نوع معين. فإيران اليوم تكاد تكون الدولة الوحيدة التي تتدخل في أدق الحريات الشخصية للنساء والرجال، في حين تهمل مصالح وطنية كبرى، حيث تتسبب تدخلاتها السياسية وتصريحاتها العسكرية، في حرمان شعبها ومصالحها الاقتصادية وبنوكها ومنتجاتها وسياحتها وثقافتها من أعظم الفرص.

انظر مثلا وبكل واقعية وموضوعية، إلى المادة 12 من الدستور الإسلامي الإيراني، ومن زاوية مصالح النظام نفسه، وهي المادة التي تنص على أن "الدين الرسمي لإيران هو الإسلام، والمذهب هو المذهب الجعفري الاثنى عشري".

الدستور الإيراني لم ينص حتى على مذاهب الشيعة المختلفة، بل اقتصر على "المذهب الجعفري الاثنى عشري". والآن، هل يعقل لدولة تريد تمثيل الشيعة أن تهمل بقية مذاهبهم؟ بل هل يعقل لدولة تريد جمع شمل المسلمين تحت زعامة وإرشاد الولي الفقيه وقائد الثورة الإسلامية أن تحصر نفسها في هذه الزاوية الطائفية المذهبية الحادة؟ فالجمهورية الإسلامية الإيرانية تقدم نفسها كقائد للعالم الإسلامي بأغلبيته الكبرى، وهم بالطبع من "أهل السنة والجماعة"، وبمذاهب غير جعفرية وغير شيعية وغير إمامية وغير اثنى عشرية! فهل في وضع مادة كهذه في الدستور أي حكمة؟

ثم إن إيران منذ سنين طويلة، موطن الدعوة الحارة إلى "التقريب بين المذاهب"، ورجال الدين فيها حتى على مستوى قادتها الدينيين ومراجع التقليد الشيعة، من دعاة توطيد العلاقة مع "الأزهر الشريف" ومع العالم الإسلامي، بل حتى مع الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية و"حماس" ونشطاء شمال إفريقيا.

كما تنطلق من إيران بين الفينة والأخرى الوعود بإنصاف أهل السنة في إيران ورفع الموانع المذهبية والسياسية في وجههم، ثم لا يتحقق إلا القليل في هذا المجال دون أي تفسير! بل انظر إلى المادة 115 من الدستور الإيراني نفسه:

"المادة الخامسة عشرة بعد المئة: ينتخب رئيس الجمهورية من بين الرجال المتدينين السياسيين الذين تتوافر فيهم الشروط التالية:

1- أن يكون إيراني الأصل ويحمل الجنسية الإيرانية.

2- أن يكون قديرا في مجال الإدارة والتدبير.

3- ذا ماض جيد.

4- تتوافر فيه الأمانة والتقوى.

5- مؤمنا ومعتقداً بمبادئ جمهورية إيران الإسلامية والمذهب الرسمي للبلاد". (الترجمة العربية للشيخ محمد علي التسخيري، طهران 1983، ص414).

ولنا هنا على هذه المادة عدة ملاحظات، وبخاصة أنها تتضمن الإشارة إلى مفهومين حديثين هما الوطن والجنسية، فكيف تكون شهادة الانتماء لوطن ما، بل الإقرار بمفهوم الوطن الإيراني بدلا عن "دار الإسلام" مثلا، من مؤهلات الرئاسة أو الإمامة أو الخلافة؟

ومما يجلب الانتباه عدم تبني الإسلاميين الإيرانيين للرأي الواسع الرواج في أوساط أقرانهم من المتشددين العرب، من أن "جنسية المسلم عقيدته"، كما يقول سيد قطب مثلا، وأن "هناك داراً واحدة وهي دار الإسلام التي تقوم فيها الدولة المسلمة"، أو كما يقول "وطن المسلم الذي يحنُّ إليه ويدافع عنه ليس قطعة أرض، وجنسية المسلم التي يُعرف بها ليست جنسية حكم"، كما يقر الدستور الإيراني الحدود المادية والجغرافية التي تشكلت عبر التاريخ والحروب، لا على أن "الوطن دار تحكمها عقيدة ومنهاج حياة وشريعة من الله"، حيث إن "هذا التصور الرفيع للدار وللجنسية والقرابة"- يضيف سيد قطب- "هو الذي ينبغي أن يسيطر على قلوب أصحاب الدعوة إلى الله".

ولا تحرم المادة 115 من الدستور الإيرانيين غير المسلمين فحسب كالمسيحيين والزردشتيين، دعك الآن من اليهود! من التقدم لمنصب رئاسة الجمهورية في إيران، فهذا هو موقف الإسلاميين العرب كذلك من إخوان وتحرير وسلف وجماعات، بل تخرج هذه المادة حتى النساء الإيرانيات مسيحيات أو مسلمات، ونساء الشيعة والسنّة على حد سواء، من مجال الترشح للمنصب الرئاسي الرفيع.

ويبدو هذا المنع متناقضاً بعض الشيء مع تراث الشيعة نفسه الذي يعطي للسيدتين "فاطمة الزهراء" و"زينب بنت علي بن أبي طالب" مكانة دينية ومذهبية متميزة رفيعة، فالأولى تعتبر "سيدة نساء العالمين"، وذات مكانة خاصة في كل العالم الإسلامي، وبخاصة لدى الشيعة، إذ إنها أم الإمامين الحسن والحسين، وبالتالي سائر أئمة الشيعة، والثانية تعد بطلة معركة كربلاء الصامدة، والخطيبة المفوهة في أهل الكوفة بعد مأساة مقتل الإمام الحسين، والمدافعة عن بنات أخيها الحسين في البلاط الأموي وغير ذلك، ولا ينسجم هذا" الموقف الذكوري" من حقوق المرأة المدنية، مع ما يتفاخر به كثير من الشيعة من أن المذهب الجعفري، مذهب الدولة الإسلامية بموجب الدستور، أكثر مراعاة لحقوق المرأة المادية والسياسية والقانونية، ولا حاجة بنا كذلك لأن نتحدث مطولا عن تضحيات المرأة الإيرانية في مقاومة نظام الشاه، ومساهمتها في المظاهرات وفي دعم الثورة، لتفاجأ لاحقاً أنها كذلك من ضحايا النظام الوليد، وأن ديتها في القتل غير العمد نصف دية الرجل، حتى إن كانت أكثر من هذا الرجل تديناً وحماساً للثورة الإسلامية، وأكثر إيمانا بالولي الفقيه، صائمة النهار قائمة الليل. غير أن الأخطر دلالة ربما من هذا كله في هذه المادة الدستورية، أنها تنص بصراحة على أن ما يؤهل أي مواطن إيراني لمجرد الترشح لرئاسة الجمهورية، ليس اعتناقه للدين الإسلامي فحسب، بل ولا حتى تمتعه بالجنسية الإيرانية فحسب، ولا انتماءه إلى الأصل الإيراني أباً عن جد منذ أيام كورش وداريوش.

وكذلك لا تشفع لهذا الإيراني المتقدم بأوراق الترشح لرئاسة جمهورية إيران الإسلامية، مؤهلاته الإدارية ومواهبه الزعامية وسجله الجيد الناصع، وماضيه الوطني المجيد في مختلف المهام التي أوكلت إليه، وكل تضحياته وعطائه في حياته الوظيفية أو العسكرية مثلاً، بل لا يزكيه حتى الإيمان العميق بمبادئ الثورة والاستعداد للتضحية دفاعاً عن الجمهورية الإسلامية!

إذ لا بد، مهما كانت مؤهلاته الدينية والشخصية والزعامية والوطنية أن يكون قبل هذا كله وبعده، مؤمناً ومعقتداً بالمذهب الشيعي الاثنى عشري "المذهب الرسمي للبلاد"، وينبغي الانتباه هنا كذلك، فالإيمان بنظام الجمهورية الإسلامية أو حتى بالمذهب الجعفري لا يكفيان وحدهما، بل لا بد أن تكون "معتقداً" بهما.

ولا أعرف الفرق الدقيق هنا بين الإيمان بشيء ما أو الاعتقاد به، ولا أستطيع المفاضلة بينهما، ولكن ورود المصطلحين قد يفتح كذلك أبواباً لإبعاد غير المرغوب فيهم من المرشحين الشيعة الاثنى عشرية!

والآن بعد كل هذا، كم عدد ضحايا مبدأ ولاية الفقيه في نسختها السياسية الثورية منذ عام 1979؟ وكم خسر الاسلاميون الشيعة والسنة بسببها؟ وما تأثيرها على الفقه الإسلامي والشيعي؟ وإلى متى يستمر أتباع المذهب يدفعون ثمن هذه الهيمنة داخل إيران وخارجها؟ وإلى متى تحصر الجمهورية الإسلامية الإيرانية نفسها في هذا المربع بعد كل هذه التحولات الإقليمية والدولية؟

ألا ينبغى للأفكار التي جلبت كل هذه المشاكل أن تتغير؟