تناولت في مقالي الأحد الماضي المنشور على هذه الصفحة تحت عنوان "ثقوب في ثوب العدالة"، قانون الإجراءات الجزائية، باعتباره أول القوانين التي تقتضي المراجعة من السلطتين التشريعية والتنفيذية، باعتباره من القوانين التي سبقت صدور دستور الكويت، وما حفل به الدستور من ضمانات تكفل حماية حقوق الفرد، وحقه في الخصوصية وحقه في الاعتصام بالمبدأ الدستوري القاضي بافتراض البراءة في المتهم حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية، تؤمن له فيها كل الضمانات الضرورية، لممارسة حق الدفاع، وما يفرضه هذا القانون من قيود على حريات المواطنين، وضربت مثلا بالمادة 214 من هذا القانون التي خولت المحكمة سلطة شمول الحكم بالنفاذ الفوري، ولو كان الحكم غيابيا وصادرا في جناية بعقوبة سالبة للحرية، وإن المعارضة في هذا الحكم لا توقف نفاذه، الأمر الذي تشوب هذا النص شبهة عدم الدستورية، لمخالفة المبدأ الدستوري سالف الذكر الذي نصت عليه المادة (34) من الدستور.

Ad

وكانت إحدى دوائر محكمة الجنايات في الكويت، قد شملت حكما غيابيا بالنفاذ الفوري في مشاجرة اقترنت بظرف مشدد.

تحية لقاض وعالم جليل

وأعترف بأنني لم أكن أتوقع أن يكون لمقالي هذا الصدى في ساحة الجامعة، وفي محاضرة ألقاها قاض وعالم جليل، على طلبته في السنة النهائية بكلية الحقوق، حيث تفضل بتوزيع صور من مقالي المذكور على طلبته، ليكون المقال محل مناقشة عامة في محاضرته التالية، فأكثر ما يتوقعه كاتب مقال، أن يكون لمقاله صدى لدى قرائه، وربما يسعده أكثر أن تلقى الأفكار التي طرحها في مقاله استجابة لدى مسؤول متنفذ، فيبادر إلى تقويم أي اعوجاج أو خطأ أو انحراف في تطبيق قانون، أو يطالب بتعديل القانون أما أن تكون الفكرة أو الأفكار التي طرحها المقال محل مناقشة عامة في الجامعة معقل الفكر الإنساني، فهي غاية قد تكون أبعد من خيال أي كاتب.

ولهذا رأيت أن أتوجه بالتحية للأستاذ المستشار الدكتور عادل بورسلي، الذي شرفني بطرح مقالي على طلبته، ليكون محل مناقشة عامة في محاضرته التالية، فهو أمر له أكثر من دلالة، وأولى هذه الدلالات هي حرص سيادته على الربط بين الجامعة وبين قضايا المجتمع، باعتبار هذا الربط ضرورة حتمية، لإضفاء صبغة عملية على البحث العلمي، وربط التعليم بحاجات المجتمع ومتطلباته، والدلالة الثانية هي نظرة الأستاذ المستشار على أن أي بحث في القانون على مستوى الجامعة ليس مجرد بحث فني أو أكاديمي، بل هو بحث غايته تطوير القانون، باعتباره أحد الآليات الضرورية لتحقيق التنمية المستدامة في كل ملامحها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأن تطوير الدراسات القانونية قد أصبح أمراً ملحاً لمواكبة تطور التعليم في مختلف جامعات العالم، في ظل ظاهرة العولمة وثورة المعلومات وحقوق الإنسان التي أصبحت ظاهرة كونية.

ولعل الأستاذ المستشار قد وجد في الجامعة المجال الخصب الذي يفرغ فيه كل ملكاته وقدراته وإيمانه المطلق بحرية الرأي والرأي الآخر في البحث العلمي، وقد حجبت سرية المداولة في عمله القاضي عنا هذه الملكات والقدرات، لأن عمل القضاة فيما بينهم كنٌّ مستور، لا يجوز إذاعة فضل فيه لأحد دون الآخر، ومع ذلك فقد سجل ولا يزال أنصع صفحة لقاض، لترفع اسمه بين أعلام القضاة، باعتباره من أوائل القضاة جدا وذكاءً ونزاهة واستقلالاً.

المحاكمة القانونية

وفي سياق ما ستسفر عنه المناقشة العامة لشبهة عدم الدستورية التي تشوب المادة 214 من قانون الإجراءات الجزائية، لمخالفتها أحكام المادة 34 من الدستور التي تنص على حق المتهم في محاكمة قانونية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع.

فإن ما أرجوه من سعادة المستشار الدكتور عادل بورسلي، أن يخطو خطوة أبعد بفتح الباب لمناقشة هذه الضمانات، وكيفية تفعيلها من خلال نظام للمساعدة القضائية، تتبناه كلية الحقوق، بإشهار جمعية تضم كل من يرغب من أساتذتها وطلبتها في تقديم هذه المساعدة، لغير القادرين ماليا، من المواطنين والوافدين، وأن يكون من حق المعوزين من هؤلاء الحصول على هذه المساعدة فيما يعينهم على صون حقوقهم وحرياتهم في مواجهة سلطة الاتهام، وما تملكه هذه السلطة من إمكانات هائلة في صياغة الاتهام الجنائي وجمع أدلته وتقييم هذه الأدلة، وما يحتمله ذلك من تأويل، حيث يقف المتهم في الجانب الآخر عاجزا عن هذه المواجهة عندما يختلف النظر في تفسير النصوص العقابية والإجرائية وفي تقييم أوجه البطلان في الشكل وفي الموضوع، وقد أصبح نظام المساعدة القضائية ينال أهمية كبيرة في الدول المتحضرة التي تُعنى بحقوق الإنسان، والتي تجعله من مسؤوليات الدولة إلى الحد الذي نصت عليه بعض الدول في دساتيرها.

ومن هذه الدول مصر التي لم تكتف بما نصت عليه المادة (166) من دستور الكويت من أن حق التقاضي مكفول للناس، بل ألزمت المشرع فأوصت في دستورها الصادر عام 1971 بأن يكفل لغير القادرين ماليا وسائل الالتجاء إلى القضاء والدفاع عن حقوقهم، وهو ما تبناه دستور 2012 في المادة (78) ودستور 2014 في المادة (98).

بل أصبح حق المتهم في جناية في أن يكون له محام يدافع عنه، وفقا لقانون الإجراءات الجنائية في مصر وقانون الإجراءات الجزائية في الكويت، أصبح حقا دستوريا في مصر بتقنينه في دستور 2012 و2014، بل سعى أولهما في هذا الحق بأن عهد إلى المشرع تحديد الجنح التي يجب أن يكون للمتهم محام فيها.

ومن الجدير بالذكر أن كليات الحقوق في بعض الولايات في أميركا تتولى تقديم المساعدة القضائية... وغني عن البيان أن ندب محامٍ للحضور للدفاع عن المتهم في جناية سواء في مصر أو في الكويت واستيفاء الشكل القانوني ولا يسهم في تحقيق العدالة، حيث تنتدب محكمة الجنايات محاميا للدفاع عن المتهم في الجلسة التي تجري فيها المحاكمة أحيانا دون أن يكون قد قرأ القضية أو اطلع عليها.  

ولا أجد ما أختم به هذا المقال سوى ترديد قول مأثور لأبي مسلم الخولاني يقول فيه "إن عدلت مع أهل الأرض جميعاً وجُرت في حق رجل واحد فقد مال جورك بعدلك".

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.