دروس باريس... سقوط المسلمات

نشر في 23-11-2015
آخر تحديث 23-11-2015 | 00:01
 د. عبدالحميد الأنصاري ضحايا خطاب «الكراهية» من مسؤولياتنا الدينية والأخلاقية والوطنية، ولا يعفينا أن نردد أن المفجرين فئة ضالة أو مغرر بها، كما لا يقنع الآخرين أن نردد أعقاب كل إرهاب: الإرهاب لا دين له ولا جنسية.

كان من تداعيات ونتائج هجمات باريس الإرهابية التي أودت بحياة أكثر من 130 ضحية بريئة وأصابت 350 جريحاً، وأرعبت المجتمع الفرنسي والأوروبي عامة، هز الثقة بكثير من التصورات السائدة عن الإرهاب العابر لحدود الدول والقارات، وأيضاً، وهو الأهم، ضرورة إعادة النظر في العديد من المسلمات، أبرزها:

 1- معادلة الأمن والحرية: لطالما تفاخرت أوروبا وتظاهرت، بأنها لن تتخذ إجراءات أمنية، في مواجهة الإرهاب، تقيد الحريات الفردية، ولن تضحي بالخصوصيات المقدسة لمصلحة الأمن القومي، ولن تقيد حركة العابرين والمسافرين بين دول "شينغن"، فالأوروبي يعتز بحريته ولن يقبل قيداً على حركته مهما كانت الاعتبارات الأمنية، ومن هنا تفاخر الرأس المدبر "أباعود" بأنه تنقل عبر الدول الأوروبية من دون أن تلاحظ الأجهزة الأمنية تحركاته، وهو ما ينطبق على بقية زملائه الانتحاريين، رغم أن بعضهم- تحت الرقابة القضائية- ومن المصنفين الخطرين على الأمن.

لقد كشفت الهجمات عجز السلطات الأمنية الأوروبية عن رصد العدد الكبير والمتنامي من الشباب الأوروبيين المسلمين الملتحقين بـ"داعش"، وعجزها عن رصد خططهم، رغم معرفتها بهم، ورغم التحذيرات المسبقة المقدمة من دول عديدة لها، وطبقاً لهدى الحسيني فإن الأمن الفرنسي وقف أمام عائق ثقافي قلص كفاءته، لأنه لا يمكن التعامل مع إرهابي القرن (21) فيما الفرنسيون متمسكون بأفكار القرن (19) الحالمة عن الحرية والخصوصية، وتضيف: الديمقراطية فاعلة كنظام سياسي إلا أنها أمام الإرهاب ضعيفة، وهي السبب الرئيس وراء ضعف مكافحة فرنسا وبلجيكا للمتطرفين في الشوارع والأحياء.

أوروبا تجد نفسها اليوم مضطرة لتغليب الجانب الأمني والدفاع عن شعوبها ومقدراتها، باتخاذ إجراءات أمنية غير معهودة: إغلاق الحدود، وقف القطارات، إعلان الطوارئ، نشر قوات مسلحة في المدن، إطلاق يد الشرطة في التوقيف الإداري، مداهمة المنازل وتفتيشها، إغلاق مساجد المتشددين، طرد أئمتهم وسحب الجنسية منهم، فرض الإقامة الجبرية، حظر بيع خطوط الهواتف لمجهولين، سجن المتشددين العائدين، ويخشى على "أوروبا بلا حدود" أن تصبح من الماضي!

قد تحذو أوروبا حذو أميركا بعد 11 سبتمبر 2001 على غرار "باتريوت أكت"، وقد تعيد النظر في سياسة الهجرة واللجوء، لكن أهم الدروس المستفادة، وكي لا يحقق "داعش" أهم أهدافه وأخطرها: ألا يسمح الأوربيون لليمين العنصري بأن يجرهم إلى حملات عنصرية ضد مواطنيهم من أصول عربية أو إسلامية، سيكون ذلك كارثة الكوارث كما يقول بحق صالح القلاب.

 2 - سقوط مسلمات تروج عوامل مثل: الإحباط أو الفقر أو الجهل، أو المظالم أو ظهور المنكرات أو تفاقم الفساد، أو التآمر الدولي، كدوافع للإرهاب، هجمات باريس الإرهابية تأتي لتنسف كل هذه المسلمات التي يروجها بعض الكتّاب والمثقفين لخدمة أجندة سياسية أو أيديولوجية عبر المنابر الإعلامية، وخصوصاً الفضائيات والمواقع الاجتماعية، تثبت هجمات باريس العدوانية، أن وراءها شبابا مسلمين، متعلمين، يعيشون في فرنسا، ينعمون بحرياتها ومباهجها، لا يشكون ظلماً أو منقصة، ولا يعانون فقراً أو مخمصة.

 هناك طائفة أخرى من الكتّاب والمغردين يلتمسون أعذارا أو مسوغات للإرهابيين بالتعلل بالماضي الاستعماري الفرنسي وتنكيله بالجزائريين، وهي تبريرات زائفة وظالمة، فكل الشعوب والأمم عانت وقاست في الحقبة الاستعمارية في الماضي وليس العرب وحدهم، لكنها لم تنتج مفجرين في أبرياء غير مسؤولين عن مظالم دولهم التاريخية ضد الشعوب الأخرى، رغم أن تلك الشعوب تعرضت لمحن وتنكيل وتدمير أشد وأقسى منها الصين واليابان وفيتنام وكوريا، وقد أصابها من الغرب الاستعماري ما لا يقارن بما أصابنا، ومع ذلك لم ترسل أبناءها للانتقام والثأر من الغرب!

الحياة نعمة عظيمة من الخالق جل وعلا، ولا يضحي الإنسان بنفسه، ولا يفضل الموت على الحياة، ويقدم على تفجير نفسه في الآخرين إلا تحت ضغط عامل رهيب، يستحوذ على عقله وفؤاده، يزين له عمله الإجرامي العدواني قربه إلى الله تعالى- بحسب زعم من لقنه- هذا العامل الرهيب الضاغط هو "عقيدة الجهاد" التي تم تشويهها وتحريفها من جماعات الكراهية، وهؤلاء الشباب الذين تحولوا إلى أدوات فتك وقنابل بشرية، هم ثمرة خطاب "الكراهية"، كراهية الحياة، كراهية الحضارة، كراهية العصر، كراهية المجتمع، لم ننجح في تحبيبهم بالحياة، ولم نعلمهم أن يحبوا ويعمروا وينتجوا ويسعدوا مجتمعاتهم، لم نحصنهم ونقوِّ مناعتهم أمام فيروسات الكراهية فانزلقوا إلى أحضان الجماعات الخارجة على العصر والحضارة.

 لذلك هم ضحايا خطاب "الكراهية"، فهم من مسؤولياتنا الدينية والأخلاقية والوطنية، ولا يعفينا أن نردد أنهم فئة ضالة أو مغرر بها، كما لا يقنع الآخرين أن نردد أعقاب كل إرهاب: الإرهاب لا دين له ولا جنسية، حقاً الإسلام بريء، لكن هذا الإرهاب الذي يعانيه العالم اليوم وراءه عرب مسلمون، ونحن مسؤولون عن أبنائنا الضالين، كما قال الملك عبدالله الثاني: إن مواجهة هذا الإرهاب هي أساساً معركتنا نحن المسلمين.

* كاتب قطري

back to top