للهجرة أسباب متعددة ولكل مهاجر حالته الخاصة، وأجدني أتوقف في هذا المقال عند "إحدى صورها" فيما يجري على المرأة الشرقية لا العربية، لأنها في مضمون المقال.

Ad

ما إن تستقر العائلة في بلاد المهجر، التي فيها القانون فوق الجميع من رأس الهرم إلى أسفله، ويستشعرالجميع مردود الانطواء تحت مظلته من تعليم وتطبيب وأمان وكرامة وحرية، حتى نجد المرأة الشرقية تبدأ في التمرد على تقاليدها وعاداتها بدءاً من مظهرها الخارجي الذي يأخذ خروجاً خجولاً في بدايته. فحياة المهجر تتطلب التخلي عن بعض التقاليد والعادات غير الملزمة حتى في بلاد الأصل، والتي كبلت الجميع بقيود، يعتبر البعض الخروج عليها "انحلالاً"! ولا ندري سبباً للتمسك بها. ولأن المرأة "غريزياً" شغوفة بالموضة وبما يستحوذ على إعجاب الآخرين خاصة إعجاب مثيلاتها من النساء الأخريات، فإن ما يمس مظهرها الخارجي تعتبره أساساً في عقيدتها الأنثوية، ولا تسمح بأي نقد بهذا الشأن، ولو كان بسيطاً، بل تكون مستنفرة بالجواب دائماً عند أول ملاحظة يبديها الآخرون.

فهي ترتدي الجينز والقميص الضيقين وبعضه يشف عما تحته في تناقض غريب حين تكون ذات حجاب، وكأن الشيء المهم هو حجب شعرها دون الانتباه إلى مظهرها الخارجي "المثير للغرائز" بمساحيق التجميل الصارخة أحيانا- لا نقصد المساس بعفة المرأة المحجبة إطلاقاً- لكننا نرى هذه المشاهد التي تتناقض مع تقاليد وسلوكيات الالتزام الشرعي، وأظنها شائعة في بلاد الأصل أيضاً، لذا وجبت الملاحظة التي نرجو منها الثواب. وتصاب المرأة الشرقية "بانفصام" في تفسير وضعها الجديد حين لا تميز بين قانون بلد المهجر وبين قانون الشريعة التي هي عقيدتها.

 فهي تريد أن تتخير من الأول ما يرضي رغباتها التي تصل إلى حد اعتبار نفسها مخلوقاً خارج العائلة، وتريد مساحة من الحرية "فوق الحرية" التي تتناقض مع التقاليد والعادات التي لا حرج في الثبات عليها في بلاد المهجر، لأن قوانينها تشجع المهاجر، من أي مكان في العالم، على التمسك بتراثه، وهي، أي المرأة، تريد من الثاني ما يتوافق مع الأول بتجاهل أن الشرع لا مجال فيه لتلاعب أو تحايل على تفسيره لثبات مصبه الحق، بينما القانون الذي يسري على الجميع هو من وضع بشر، وفي كثير من الأحوال يتم تغييره بما يتفق مع الحاجة، التي قد تتعارض مع مقتضيات الأمر الشرعي، ولكنها، المرأة، تصاب بانفصام في التفسير، ولا تتحمل أن ينتقدها أحد بما لا يتفق مع تصورها وما تريد أن تُحقق من خلاله استقلالية بشخصيتها "بالتمرد"، وتطالب الزوج بما لم تكن "تجرؤ" عليه وهو المساواة التامة بينها وبينه بالتمام ودون نقصان حسب رؤيتها الشخصية، متجاهلة أن الشرع ساوى بينهما، ولكن التقاليد في بلاد الأصل هي التي حطت من حقها التام، وبقيت مستكينة ومستسلمة لقدرها وتوارثت هذه الحالة كل أم عن أمها رغم وصولها إلى مراكز عالية ومناصب مهمة! هذا الخلط في فهم الحرية خلق حالات غريبة من العلاقات الأسرية بشكل لافت للنظر، نتج عنها تفسخ الأسرة وضياع الأبناء وجرفتهم العاصفة خارج البيت الدافئ، وأبعدتهم عن الصدر الحنون الذي يشكل أهم مظلة في بلادٍ كل شيء فيها مفتوح يساعد على انفلات بلا قيد سوى القانون، الذي نجد أيضاً من يستمتع بسلاسته يخرج عليه، كرد فعل لحالة أسرة مزقتها الأنانية والرغبة في التغيير من خلال المنفذ الخطأ.

وفي صورة أخرى، نجد المرأة الشرقية في المهجر سيدة بيت وعاملة ومنضبطة في علاقاتها مع أسرتها ومع المجتمع الجديد، الأمر الذي فرض احترام شخصيتها بين أبناء جاليتها ومجتمع المهجر الواسع الكبير، فنشأ الأبناء في بيئة حنونة استفادت من محاسن الهجرة وقوانينها في كل المجالات، فوصل بعضهن إلى منصب ومكانة علمية عالية نتيجة استقرار صنعه الوعي والفهم لطبيعة الحياة الجديدة دون التفريط في القيم والعادات، فتم الانسجام بين الأصل وبين المستجد من الحياة وصورها. فلا ينكر فضلاً أصابه بهجرته، مهما كان سببها، إلا غافل، في زمن كثرت فيه الحروب وتمزقت فيه الدول وبؤس يتوالد يوماً بعد يوم، "ألم تكن أرضي واسعة فتهاجروا فيها"، ليست هذه دعوة لتفريغ البلاد من العباد فقد هاجر الرسول الكريم في بداية بعثته حين اشتد عليه الأمر في مكة وشعر بترحاب أهل المدينة المنورة.

 هي دعوة إصلاح وغيرة على وطن يهجره أبناؤه لعدم قدرتهم على الصمود والعيش تحت وطأة الحروب وقسوة الحياة أملاً في حياة أفضل!

* كاتب فلسطيني - كندا