معارك هيكل بين الصحافة والسياسة (1 من 10)

نشر في 08-11-2015
آخر تحديث 08-11-2015 | 00:01
«الجورنالجي» في خدمة «السياسي»

عبد الناصر لهيكل: الصحافة هي العمل الوحيد الذي كنت أرغب فيه
كُتب عنه الكثير، وسيكتب عنه أكثر، وقليل- حتى الآن- من هذه الكتابات أنصفه، نقصد أنصفه من نفسه قبل أن ينصفه من خصومه، أنصفه بتقديم الحقائق لا بتدبيج المدائح، فمحمد حسنين هيكل مثل الظواهر الكبرى لا يتكرر إلا بمضي الزمن، ولا يمكن إعادة إنتاجه إلا بإعادة إنتاج الظروف نفسها التي جادت به، وهو متعدد الأدوار وقد أداها جميعا باقتدار، وهو رواية طويلة قام فيها بأكثر من دور بطولة، اقترب من السلطة حد الالتصاق، وحافظ على القدر المناسب من استقلاليته، اندمج في لعبة السياسة، لكنه حافظ على صفة "الجورنالجي" طول الوقت.

وهيكل ابن الثانية والتسعين اليوم أكثر ولعا بمهنته من هيكل ابن الثامنة عشرة لحظة رأى اسمه أول مرة مطبوعا على ورق، ظلت الصحافة ولعه الدائم، وهو وزير، يحضر اجتماعات مجلس الوزراء، وعبد الناصر يرأس الاجتماع، والحديث مفتوح حول موضوعات بالغة الأهمية والسرية، يسمعه عبد الناصر يقول من طرف المائدة: هذا يصلح مانشيت الأهرام غداً... فيحذره عبد الناصر: «إحنا في إيه... وأنت في إيه؟».

في هذه الحلقات نعيد التقليب في وجوه هيكل الصحافي والمؤرخ والسياسي، مصاحب الزعماء والرؤساء، الشاهد على عصر التحولات وعالم الحرب الباردة، والحكيم الذي رأى ربيع العرب قبل أوانه، هو رجل حياته الصحافة والسياسة، وله فيهما معارك، وهنا نتحدث عن بعض تلك المعارك بعدما صارت جزءا من التاريخ.

من باب الصحافة دلف كثيرون إلى عالم السياسة، ومن عالم السياسة ظل كثيرون يتوقون إلى درجة التأثير التي يملكها أصحاب القلم، بعض هؤلاء سلك الطريق من الرئاسة إلى الصحافة، وبعضهم سلك الطريق بالعكس.

جمال عبد الناصرـ بجلالة قدره ـ داعب محمد حسنين هيكل عندما زاره أول مرة بـ"الأهرام"، وهو يفتتح مبناها الجديد، حين دخل غرفة رئيس التحرير جلس إلى المكتب، قائلا:

ـ هذا هو العمل الوحيد الذي كنت أرغب في القيام به.

بينما لفت نظر أنور السادات الذي كان هو الوحيد الذي صحب عبد الناصر في زيارته إلى "الأهرام" الكرسي الذي يجلس عليه هيكل، فقال للرئيس وهو يشير إلى المقعد:

ـ شايف يا ريس محمد قاعد على "كرسي" شكله إيه؟

كان لدى جمال عبد الناصر غرام بالصحافة، ووضع اسمه على أول صحيفة تصدر في عهد الثورة لتتحدث باسمها كصاحب امتياز جريدة "الجمهورية"، وعلى الطريق العكسي اتجه أنور السادات إلى العمل صحافيا محترفا في "دار الهلال" ببداية مشواره، حين كانت السياسة تتوقف عن أن تعطيه "الشهرة" والتأثير المطلوبين، وانتهى به المطاف رئيسا لمصر، ثم سعى بعدها، ومن موقع الرئيس، إلى تأسيس مجلة وصحيفة أسبوعيتين، الأولى هي مجلة "أكتوبر"، وكان يريدها أن تصبح المجلة الأولى في الوطن العربي، وأرادها أن تنافس مجلات بيروت التي كانت تهاجمه بشدة في تلك الآونة، والثانية هي صحيفة "مايو" الناطقة بلسان الحزب الذي أنشأه باسم الحزب "الوطني الديمقراطي"، وقد وضعها تحت رعايته المباشرة وكان يسعى لأن تكون جريدة "مايو" أحسن من "أهرام هيكل"!

***

مفكرون كبار اجتذبتهم صاحبة الجلالة، وأدخلتهم من خلالها إلى ملاعب السياسة، مثل طه حسنين، ولطفي السيد، ومحمد حسين هيكل، وغيرهم، بل إن كاتباً ومفكراً بحجم ومقدرة وقدرات عباس محمود العقاد دخل من بوابة الصحافة إلى ميدان السياسة، وأصبح عضواً بارزاً في البرلمان، وصديقاً مقرباً من زعيم الأمة سعد زغلول، ومتحدثاً باسمه، وأصبح العقاد "قلم الوفد الجبار"، كما وصفه زعيم الأمة، وبعد ذلك تقلب في حلبات العمل السياسي، وكانت الصحافة مدخله إلى تلك الحلبات، ولمع فيها قلمه، وصال وجال، وظلت السياسة ولعه حتى الرحيل.

على جانب آخر كان هناك صحافيون يعتقدون أن دور الصحافي في صناعة الأحداث لا يقل أهمية عن دوره في الكتابة عنها، إحسان عبد القدوس حاول قبل الجميع ولكن حبه للرواية أخذه من الصحافة والسياسة. مصطفى أمين حاول ونجح، ثم أخفق وهوى، وانتهى به الحال محبوساً على ذمة قضية تتعلق بالسياسة لا بالصحافة، وبتهمة التخابر مع دولة أجنبية، وقبلهم كان محمد التابعي ملكاً متوجاً في بلاط صاحبة الجلالة، وصاحب تأثير ضخم في الحياة السياسية، ولعله أبو هذه المدرسة الحديثة في الصحافة، وفي مدرسته تتلمذ كثيرون على يديه.

كان من بين تلامذة محمد التابعي واحد تفوق على الجميع، وكانت قصته "بين الصحافة والسياسة" قصة نجاح جعله موضع حسد (لكي لا نقول حقد) من الكثيرين من رجال السلطة، قبل رجال الصحافة، وظل، ولا يزال، تجربة فريدة في بابها، ذاع صيته بعد كتاب شهير له هو أول كتبه "إيران فوق بركان"، وراح بعدها يتحسس خطاه في أروقة القوة والسلطة، مدفوعا بطموح ليست له حدود.

وجد محمد حسنين هيكل نفسه ـ لأول مرة ـ يشارك في تسمية بعض وزراء حكومة نجيب الهلالي باشا قبيل ثورة يوليو سنة 1952، ثم راح يتعقب القوة البازغة في الجيش وهي تتحرك لقلب الأوضاع، ولم يكن وجوده يوم 18 يوليو سنة 1952 في منزل محمد نجيب إلا نوعا من هذا التحسس للخطى، بعدها رمى أوراقه كلها مع القوة الجديدة في الجيش، وتابع الرجل الأقوى منذ اللحظة الأولى، واقترب منه عمداً وبإصرار، يملؤه طموح بلا حدود للعب دور وإعطاء لولاء كان يبحث عن "أمير" يخدمه أو يستخدمه.

كان قد انتقل من يد "فاطمة اليوسف" إلى يد محمد التابعي الذي سلمه إلى الأخوين أمين (علي ومصطفى)، وبرز هناك، وأصبح اسمه "مانشيتا" ككبار النجوم والسياسيين، ومن هناك، من على صفحات "أخبار اليوم" و"آخر ساعة"، كان هيكل متأهباً للإقلاع، موضوعاً بإحكام فوق منصة الانطلاق، بالمسافات و بالقياسات الدقيقة، فانطلق إلى طموحه... وسبق الآخرين جميعا.

كان يتقدم في عالم السياسة بقدر ما يتقدم في عالم الصحافة أو بالتوازي، قال مرة ليوسف إدريس: إنه "يمارس السياسة كصحافي"، وظل وفيا لكونه "صحافيا" أولا، عارفا بأن هذه هي نقطة قوته، نقطة تميزه عن الآخرين، وبقي يردد دائماً، بمناسبة وبدون مناسبة: "أنا مجرد جورنالجي"، وظل مخلصا لنموذج أستاذه التابعي، صحافي قريب دائما من مصانع الأخبار ومن مسارحها، قريب دائماً من القمة حيث تطبخ "الأخبار"، وربما يشارك في إضفاء "لمحة" خاصة عليها، تكسبه دوراً وأهمية، وتزيده قرباً من صناع القرار عند القمة.

أتقن هيكل لعبة الصحافي في خدمة السياسي، كما أتقن فن أن يكون السياسي في خدمة الصحافي.

***

لم يكن هيكل بدعة وحده، سواء في موقعه من جمال عبد الناصر، أو من بعده مع أنور السادات... هو نفسه يشير إلى أن ذلك ليس فريداً، وأن التجربة لها نظائر مشابهة في بلاد كثيرة، اختار منها أميركا وبريطانيا وفرنسا: والتر ليبمان مع فرانكلين روزفلت.. ووليام زيس مع مارجريت تاتشر... وبيف ميري مع شارل ديغول.

***

مبكرا جدا عرف محمد حسنين هيكل ما يحتاج إليه رجل في موقع ومكانة جمال عبد الناصر من أفكار وأخبار واتصالات، وأدى المطلوب على خير وجه، وعبر عن الزعيم بصورة كان يقول عنها عبد الناصر: "هذا بالضبط ما كنت أريد أن أقوله".

كان قرار هيكل منذ البدايات الأولى أن يقترب من السلطة، بل ويلتصق بها، وكانت تلك خبرته التي تعلمها من أساتذته الأوائل في المهنة، وكانت تلك رغبته التي سعى إليها سعياً، وكان يعرف طريقه مبكراً، وقد تعرف عليه الكاتب الروائي فتحي غانم في أواسط الأربعينيات، وكان غانم قد عين في إدارة التحقيقات بوزارة المعارف، ومعه عبد الرحمن الشرقاوي، وأحمد بهاء الدين، وكان هيكل وقتها محرراً شاباً في مجلة "آخر ساعة" يذهب إليهم للحصول على أخبار تحقيقات الإدارة لينشرها، وكان يردد دائماً ومبكراً جداً، وربما في الأيام الأولى من الثورة، أن "الحاكم يحتاج لصحافي يعبر عنه"، وكان يقول بقناعة مطلقة: "وسأكون أنا هذا الصحافي"، وكان فتحي غانم يرى وقتها أن الأدب أبقى وأفضل من السياسة، ويضحك هيكل ويقول له: "خلاص لك الصفحة الأخيرة، ولي الصفحة الأولى".

اقترب هيكل من السلطة حد الالتصاق، وقدم نموذجاً فريداً في ذلك، وكان يدرك أن مهنته تستوجب أن يقترب من السلطة بالقدر الذي تتيحه من معلومات لازمة لعمل الصحافي، وفي الوقت نفسه تتطلب استقلالية وحرية حتى لا ينقلب إلى مجرد صوت "سيده". وعى هيكل هذه الإشكالية، وحاول بطريقته أن يخلق توازنا، وظل يؤدي الدورين باقتدار.

***

اختط محمد حسنين هيكل لنفسه طريقه وسط غابات العلاقة الشائكة قرب قمة السلطة، واستغل في ذلك قربه إلى جوار عبد الناصر لكي يغلق دائرة الاتصال بينه وبين كثير من رموز النظام أفراداً ومؤسسات. وأذكر الأستاذ هيكل وهو يقول لي- في مكتبه وقد دعاني لعرض عمل لي في مجلة "وجهات نظر" التي كان يحوطها برعايته، وهي بالأساس فكرته- موضحا موقفه من الجماعة - كما يسميهم- في ظل عبد الناصر: "كنت أسدلت (ستارة) سوداء بيني وبين هؤلاء المتنفذين في السلطة تحت قيادة عبد الناصر، كنت حريصاً كل الحرص على ألا ينقل عني إليه شيء، وألا أنقل منه إليهم أي شيء"... ستارة سوداء حافظت على صفاء العلاقة بينه وبين عبد الناصر من تدخلات "الوشاة"، وحفظته من حقد الحاقدين على عمق العلاقة التي ظلت تتطور باستمرار حتى آخر أيام عبد الناصر.

ستارة سوداء جعلت رجال الرئيس يسبغون عليه صفة التعجرف أو التكبر، وكان هو واعياً بذلك، وقال: إنه اختار أن يوصف بالعجرفة بدلا من أن يدخل في حلبة الصراع بالقرب من رأس النظام.

ولم يكن "العمار" يسود علاقة هيكل بأكثر هؤلاء، خاصة من يطلق هو عليهم رجال "التأمين" حيث يضع نفسه مع عبد الناصر في خانة "الحلم" الذي جسدته أفكار عبد الناصر... كان قد أقام ستاراً بينه وبينهم، مكتفياً بقرب علاقته من "الريس"، وكانوا يحسدونه على هذا القرب، الذي قد يؤثر على درجة نفوذهم لدى الرجل الأول... قالوا إنه يتعالى عليهم... وقال هو: حسناً فليكن ظنهم صحيحاً... لست أهتم لا بهم، ولا بما يظنون؟، حاولوا أن يرسلوا إليه رسائل حتى لا يتجاوز الخطوط الحمراء ضدهم... وكانت إحدى هذه الرسائل رصاصتين أصابتا سيارته وهو يهم بالركوب فيها... وفهم الرسالة.

ومن موقعه بالقرب من الرئيس، ومن نطاق الحماية المكفولة له من "الرجل الكبير" هاجم هيكل الأجهزة التي كانوا عليها يشرفون، وهاجم تنظيمات الاتحاد الاشتراكي الذي كانوا عليه يسيطرون. وكانت آراؤه محل نقد وانتقاد وتخوين من بعض تلك الأجهزة، وبعض المستويات القيادية في هذه التنظيمات، وكانت علاقته بجمال عبد الناصر محل نقاش عام في اللجنة المركزية حتى ضاق عبد الناصر بالحوار حولها إلى الدرجة التي قال فيها لهم: إذا كنتم تريدون أن أقطع علاقتي بهيكل.. فأنا مستعد.

وللحق فإن ذكاء هيكل كان دائماً معه، وجعله يحرص كل الحرص على أن يلجم نفسه عن المشاركة واكتفى بدور "المشاهد النشط" وابتعد عمداً عن الدخول الرسمي إلى "الطبقة الحاكمة"، ورفع شعار "أنا جورنالجي"، لا ليثبت أنه صحافي فقط، ولكن ليؤكد لزملائه قبل خصومه من أعضاء الطبقة الحاكمة أنه ليس منافساً لهم على شيء... حاول دائماً أن يثبط (يهمد) لديهم روح التنافس، التي سرعان ما تنقلب إلى رياح تقتلع...

كان يقترب من دوائر السلطة، يقود خطاه إحساسه بالمشاركة في صناعة تاريخ في طور التشكل، لذلك كان منذ اللحظات الأولى في حياته المهنية حريصاً على أن يحتفظ بكل ما يقع تحت يده من أوراق حتى القصاصات منها، كانت تجد طريقها إلى "أرشيف" هيكل لتدخل إلى حيث تستقر لوقت يأتي فيه دورها، في الوقت الذي كان منافسوه في "الصحافة"، التي ينسب نفسه إليها وحدها، يحسدون موقعه الذي فيه، ويثرثرون حول الصحافي "الأوحد" الذي ملك أذن وعقل الرجل الأول في مصر.

***

جمال عبد الناصر استخدم هيكل وأثر فيه، وكان لهيكل تأثير في عبد الناصر كذلك، ولكن مع أنور السادات كان الأمر مختلفاً، أراد هيكل أن يستخدم السادات، ولكن الأخير لم يكن سهلا، وكان يشعر بالدونية تجاه هيكل، ولم يقصر هيكل في ترسيخ هذا الشعور داخله خلال فترة عبد الناصر. وحسب شاهد عيان فقد كان يعامله معاملة "درجة ثالثة". وهناك قصة تروى في هذا الشأن خلاصتها أن المحرر البرلماني في "الأهرام" كتب ما لم يعجب السادات، وكان وقتها رئيساً لمجلس الأمة، فطلبه إلى مكتبه وعنفه، ويكاد يكون طرده من المكتب بطريقة غير لائقة، وذهب المحرر إلى هيكل طالباً نقله إلى عمل آخر، وعندما استفسر عن الأسباب ذكر له ما حدث، فلم يكن من هيكل إلا أن طلب منه أن يخرج من مكتبه مباشرة إلى مكتب السادات قائلا: اذهب إليه الآن، وسوف يعتذر لك.

وطلب هيكل السادات على التليفون، ويكاد يكون "وبخه"، طالبا منه أن يعتذر فوراً إلى المحرر، الذي هو في طريقه إلى مكتبه الآن. وفعلا لم يكد الصحافي يصل إلى أول شارع مجلس الأمة، وقبل دخوله بوابة المجلس، وجد من يبلغونه أن رئيس مجلس الأمة يطلبه، ويسأل عنه، وما إن وصل إلى مكتب السادات حتى بادره قائلا: " دا كلام يا فلان... رايح تشتكيني للأستاذ هيكل، أنت صدقت، دا أنا بهذر معاك... أنت أخذتها جد.. يا سيدي أنا أعتذر لك".

منذ البداية لم يكن أنور السادات يستريح لهيكل، ولكنه كان في حاجة إليه، وتصورها هيكل فرصته لكي يستخدم السادات ولكن في النهاية ظهر أن السادات هو الذي استخدم هيكل، وليس العكس.

بين عبد الناصر والسادات

راهن هيكل مرتين على رجلين مختلفين حد التناقض، ولم يكونا قد أمسكا بعد بتلابيب السلطة بين أيديهما. في الشهور الأولى لثورة 23 يوليو سنة 1952 راهن على جمال عبد الناصر، وكان محمد نجيب في تلك الآونة هو الرجل الأول "رسمياً"، ولكن هيكل رأى في عبد الناصر قائد الثورة "الحقيقي"، وكانت الوقائع أمامه تشير إلى أنه الرجل الأقوى في النظام الجديد.

مشى هيكل وراء حدسه بأنه الرجل القادم في مصر... وكسب الرهان... وكسب دوره الذي سيعرف به فيما بعد. وبعد رحيل عبد الناصر، راهن هيكل على أنور السادات، ولم تكن الوقائع تشير إلى أنه سيكون الرجل القوي في النظام الجديد، وكان قادة نظام عبد الناصر يمسكون بدفة الأمور في البلاد... وكسب هيكل الرهان من جديد... ولكنه كاد يخسر نفسه هذه المرة. فوجئ هيكل بالرجل الذي راهن عليه ودعمه وانحاز إليه في مواجهة خصومه يطيح به في أقرب فرصة، وعند أول خلاف حقيقي، لم يطق السادات الخلاف معه، وخرج هيكل، ثم عاد واستعاد نفسه من جديد بعيدا عن قمة السلطة.

كان هيكل الذي راهن على عبد الناصر، هو ابن التاسعة والعشرين من عمره، قليل الخبرة في الحياة السياسية، ولم تكن كل مواهبه قد تفتحت ونمت، وكان هيكل الذي راهن على السادات هو ابن السابعة والأربعين، وقد اكتسب خبرات ضخمة خلال عمله إلى جوار رجل بحجم وقيمة جمال

عبدالناصر طوال 18 عاماً مكثفة من النضال، والمعارك السياسية والدبلوماسية والإعلامية. كسب هيكل الصغير رهانه الأول، وكسب نفسه... وخسر هيكل صاحب كل هذه الهالة وكل تلك الخبرات رهانه الثاني، وكاد يخسر نفسه.

كان هيكل في ظل عبد الناصر واحداً ممن يستمع إليهم عبد الناصر، وكان السادات يحسده على قربه من عبد الناصر... وكان يعرف، بل ويقول لهيكل: "لولا هذا الخط المباشر بينك وبين الراجل الكبير لكانت رقبتك طارت من فوق جسدك"، وكان السادات يذهب إليه في مكتبه، وينتظر، حتى يفرغ من أحاديثه مع الرئيس في التليفون.

وعندما أصبح السادات رئيسا، بتخطيط مشترك مع هيكل، اختلفت طبيعة العلاقة مع السادات فلم يكن هيكل يريد أن يواصل العمل في خدمة "سيد" جديد، بل أراد أن يكون شريكاً حقيقياً... كان قد خرج من قمقم "التابع"، الذي ظل حبيساً داخله طوال 18 عاماً في ظل سلطة رجل استثنائي، وبدأ مسيرة علاقة "دراماتيكية" مع السادات رئيساً، علاقة بدأت بالتحالف حد الالتصاق، وتوحد الأهداف، وانتهت عند المنصة حيث السادات مضرجاً في دمائه، وهيكل محجوزا بين أربعة جدران تحدها أسوار وفوق الأسوار حراس.

مسار العلاقة بينهما غير طبيعي، في الجزء الأغلب فيه، كان هيكل ملء السمع والبصر، مؤثراً قريباً من الرجل الأول، داعية للنظام، ولم يكن للسادات غير دور باهت أقرب إلى الظل منه إلى الضوء الباهر الذي يحيط بهيكل طوال عهد عبدالناصر، ثم يبدأ النصف الثاني من مسار العلاقة، وهيكل صاحب فضل كبير على السادات أولاً في وضع ملامح الحملة الانتخابية لخلافة عبد الناصر، وثانياً في الصراع على السلطة الذي دارت رحاه طوال الشهور السبعة من بعد رحيل عبد الناصر وحتى انقلاب مايو سنة 1971، وقد انتهت أحداث تلك الشهور، وقد جمعت بين هيكل والسادات إلى درجة الالتصاق، وكانت القرارات الرئيسية هي أفكار هيكل، بل إن الكثير من القرارات الإجرائية كانت من وحي أفكاره ومن تخطيطه.

واختلفت في ما بعد الانحيازات عندما تسلطن السادات، وانفرد بمقعد ارتاح إليه، وراح يتسلط من فوقه، وأرادها علاقة بين صاحب السلطة، وبين صاحب القلم، وأراد من صاحب القلم ألا يجاوز دوره... أراده ألا ينسى حدوده... وكان يريد أن يحدد هو هذه الحدود، أراده أن يلتزم بأن السلطة لها صاحب واحد فقط، وأنه لم يكن لهاـ أبداً ـ صاحبان.

back to top