إعادة النظر في العقوبات

نشر في 23-12-2015
آخر تحديث 23-12-2015 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت يدير مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة هذه الأيام- أكثر من أي وقت مضى في تاريخه- عدداً من أنظمة العقوبات، ففي تسعينيات القرن العشرين كان العدد الأقصى 8 أنظمة؛ وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ارتفعت الذروة إلى 12 نظاماً؛ والآن بلغ عدد تلك الأنظمة 16، ولا تتضمن هذه الأرقام الإجمالية العقوبات المفروضة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وإذا حكمنا من خلال هذا التصعيد فقد نستنتج أن العقوبات أثبتت أنها أداة بالغة الفعالية في تعزيز السلام والأمن الدوليين، ولكن من المؤسف أن هذا أبعد ما يكون عن الواقع.

وتشير الدراسات الأكاديمية إلى أن العقوبات حققت نجاحاً محدوداً، فوفقاً لتقديرات توماس بيرستيكر من معهد الدراسات العليا في جنيف، كانت العقوبات فعّالة في نحو 20 في المئة فقط من الحالات، ويقول آدم روبرتس من جامعة إكسفورد إن «هناك حالات قليلة للغاية، حيث يمكنك أن تجزم عن يقين بأن العقوبات كانت ناجحة، ربما باستثناء بعض الأحيان عندما تقترن هذه العقوبات بعوامل أخرى». على سبيل المثال، رغم أن العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على ميانمار قد تكون ساهمت في حمل البلاد على اتخاذ القرار بفتح اقتصادها والانخراط في عملية إصلاح سياسي تدريجي، فإن الخوف من الاعتماد بشكل مفرط على الصين ربما كان الدافع الأكبر.

بيد أن المشاكل المحتملة المرتبطة بأنظمة العقوبات تمتد إلى ما هو أبعد كثيراً من الفعالية، فهناك أيضاً من الأدلة ما يشير إلى أن العقوبات قد تفضي إلى نتائج عكسية هدّامة، كما يحدث عندما يثري النظام المستهدف نفسه عن طريق التحكم في السوق السوداء للسلع المحظورة، ففي هايتيي، على سبيل المثال، عمل النظام العسكري على تسهيل تجارة السوق السوداء في النفط عبر حدود البلاد مع جمهورية الدومينيكان خلال الحظر النفطي الذي فُرِض على البلاد في عامي 1993 و1994.

وتشتد المخاطر عندما يكون البلد المستهدف في موقف قوي يسمح له بالرد الانتقامي، لأن جماهير الناخبين المتضررين من الممكن أن ينقلبوا ضد قادتهم لفرض العقوبات، فعندما فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي العقوبات على روسيا رداً على ضمها شبه جزيرة القرم، ردت روسيا بحظر الواردات من المواد الغذائية من أوروبا الغربية، الأمر الذي دفع المزارعين في بروكسل وأماكن أخرى إلى الاحتجاج على انخفاض الأسعار.

ولكن حتى عندما لا تخلف العقوبات الأثر المرغوب فإنها تظل قائمة غالباً، وأحد الأسباب وراء ذلك هو أن الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن تستطيع بمجرد فرض العقوبات أن تستخدم «حق النقض العكسي» ضد محاولات رفعها، وبالتالي، فرغم خضوع أنظمة العقوبات للمراجعة الدورية، فإن هذا لا يعني الكثير ما دامت أي دولة دائمة العضوية عازمة على إبقائها.

وقد حدث هذا مع العقوبات التي فُرِضَت على العراق بدعم من الولايات المتحدة في تسعينيات القرن العشرين، فقد خلفت عواقب وخيمة ليست فقط على صدام حسين ونظامه، بل أيضا- وهو الأمر الأكثر أهمية- على أعداد هائلة من الأبرياء، وتشير تقديرات جوي غوردون من جامعة لويولا في شيكاغو إلى أن العقوبات أدت إلى زيادة عدد الوفيات بين الأطفال بنحو 670 ألف طفل إلى 800 ألف.

لا شك في أن المجتمع الدولي، الذي أدرك المعاناة التي أحدثتها العقوبات في العراق، تحرك نحو عقوبات موجهة أو «ذكية»، ولكن يظل من غير الواضح ما إذا كانت عقوبات اليوم الموجهة أكثر فعالية حقاً من العقوبات الشاملة في الماضي، فكما ذكرت غوردون، تظل تجارة السوق السوداء قادرة على تقويض الحظر على الأسلحة والنفط. وعلاوة على ذلك من الممكن أن تتسبب العقوبات التي تستهدف صناعات بعينها في الإضرار بكل الاقتصاد على النحو الذي يلحق الأذى بسبل معيشة المواطنين العاديين ورفاهيتهم، وإن كان المجتمع الدولي يتغاضى عن مثل هذه العواقب غالباً.

الواقع أن العقوبات التي تستهدف أفراداً بعينهم، مثل تجميد الأصول وحظر السفر، أفضل أداءً في تجنب مثل هذه الأضرار الجانبية الواسعة النطاق، ولكن من الممكن أن يظهر أشخاص أبرياء على مثل هذه القوائم بشكل غير مقصود، ولو أن عملية تحديد الأهداف تحسنت في الاستجابة للدعاوى القضائية التي يرفعها المتضررون.

ومن المؤكد أن العقوبات تخدم بعض الأغراض، فعلى حد تعبير مايكل دويل من جامعة كولومبيا: «قد يكون لفرض العقوبات ما يبرره إذا كان البديل المتمثل بالاستجابة المتراخية أو اللجوء للقوة المسلحة أشد سوءاً، وهذه هي الحال في بعض الأحيان، بيد أن الاستجابة المتراخية ربما تنطوي على التسامح مع انتهاك حقوق الإنسان أو الانخراط في انتقادات لفظية بحتة (الكلام الرخيص). أما القوة العسكرية فهي لا تتناسب مع بعض الانتهاكات، وهي غالباً أكثر تكلفة على المستويين الإنساني والمادي.

وتنشأ المشكلة عندما يعتمد القادة بشكل مفرط على العقوبات، ويؤطر جون روجي من جامعة هارفارد القضية بإيجاز في «أن العقوبات أداة للدبلوماسية القسرية، إلا أن صناع السياسات يتناسون الجزء الخاص بالدبلوماسية»، ويبدو في كثير من الأحيان حقاً أن القادة، غير الراغبين في- أو غير القادرين على- إنفاق الوقت لممارسة المشاركة السياسية الحقيقية، يستخدمون العقوبات كطريق مختصر.

وكما لاحظ كينيث روغوف من جامعة هارفارد، فإنه «كثيراً ما تكون التأثيرات المترتبة على العقوبات مخيبة للآمال إلى حد كبير، حتى إن العديد من الباحثين خلصوا إلى أن مثل هذه التدابير تفرض غالباً حتى تبدو الحكومات في نظر الجماهير المحلية وكأنها تقوم بشيء ما»، ومن المؤكد أن هذه كانت الحال مع العقوبات الشديدة التي فرضتها الولايات المتحدة على كوبا، والتي كانت رخيصة وغير فعّالة (بل ربما أخرت الإصلاحات في واقع الأمر).

ومن المؤسف أن تقويم العقوبات كان في عموم الأمر هدفاً أقل جاذبية من فرض العقوبات في حد ذاته، ولكن نظراً للتأثير المتنازع عليه الذي تخلفه العقوبات، فإن الأمر يتطلب نهجاً جديداً، إذ لابد أن تسترشد السياسة العامة بالأدلة لا بالحدس والعواطف، وتشير الأدلة إلى أن تحقيق النجاح وتجنب العواقب غير المقصودة يستلزمان بالضرورة السعي إلى فرض عقوبات مختارة بدقة وعناية، جنباً إلى جنب مع المشاركة السياسية.

ربما يبدو فرض العقوبات ممارسة حسنة، ولكن إذا كان لها أن تحقق نتائج طيبة حقاً، فيتعين علينا أن نعكف على صقل وتهذيب كيفية استخدامها.

كوفي أنان & كيشور محبوباني

* أنان رئيس مؤسسة كوفي أنان التي تسعى إلى حشد الإرادة السياسية لمعالجة المخاطر التي تهدد السلام، والتنمية، وحقوق الإنسان. وكيشور محبوباني عميد كلية لي كوان يو للسياسة العامة في جامعة سنغافورة الوطنية، ومؤلف كتاب «التقارب العظيم: آسيا، والغرب، ومنطق العالم الواحد».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top