إعلام الدولة العربية في مفترق طرق

نشر في 15-11-2015
آخر تحديث 15-11-2015 | 00:01
في مقابل من ينادون بضرورة تفكيك منظومات الإعلام المملوكة للدولة في بعض الدول العربية، منطلقين من موقف سياسي يرى في تلك الوسائل تكريساً للاستبداد، ومن آخر اقتصادي يعتقد أن الأموال التي تنفق عليها يتم هدرها من دون تحقيق عوائد مناسبة... يرفض الكاتب تلك الدعوة مؤكداً أن تطبيقها قد يؤدي إلى عواقب وخيمة.
 ياسر عبد العزيز  لم تكن أفكار إصلاح الإعلام المملوك للدولة شائعة في العالم العربي قبل التغيرات الحادة التي طرأت على عدد من دوله، اعتباراً من مطلع عام 2011.

لقد نشأ الإعلام العربي في حضن الدولة الوطنية، سواء قبل الاستقلال أو بعده، ثم ما لبث أن تحول إلى أحد عناصر القوة الشاملة للدولة، حيث احتكرته الحكومات، واستخدمته كأداة من أدوات الدعاية والضبط الاجتماعي.

وبسبب الدور الدعائي المهم للحكومات العربية، فقد استثمرت كثيراً في المنظومات الإعلامية الرسمية، وفي أحيان كثيرة اتخذ هذا الاستثمار سمت التبذير والإسراف، حتى تضخمت تلك المنظومات، وترهلت، وهيمن الفساد على إدارة معظمها، وتفاقمت خسائرها وديونها في دول عديدة.

لكن أوضاع الإعلام المملوك للدولة لا يمكن أن تستمر على ما هي عليه راهناً، خصوصاً في تلك الدول التي عرفت تغيرات حادة، وتطالب شعوبها ونخبتها بعمليات إصلاح وإعادة هيكلة للمؤسسات الرسمية، أو في تلك الدول التي تتعرض لضغوط اقتصادية تضاعف من عجز موازناتها أو تجبرها على مراجعة سياسات الإنفاق.

وفي الوقت نفسه، يصعب جداً أن تتم تصفية تلك المنظومات، سواء بإغلاقها أو خصخصتها؛ وهو الأمر الذي يحتم إيجاد وسائل عملية ناجعة لإعادة تأهيل تلك المنظومات، بما يحقق مصلحة الدول والشعوب التي أنفقت عليها لعقود طويلة.

فما الإعلام المملوك للدولة؟

تعرف دول ديمقراطية متقدمة عديدة نمط "الإعلام المملوك للدولة"، حيث يُنظر إلى الدولة في هذا الإطار باعتبارها "المجموع العام"، وليس الحكومة (السلطة التنفيذية) فقط، ولا النظام (مجموع الأجهزة والكيانات المتحكمة في الأداء الوطني) فقط، ولكن بوصفها كياناً أوسع، يعمل في إطار تحقيق المصلحة العامة، كما يشخصها المواطنون عبر وسائل المشاركة الديمقراطية.

وقد نشأ مصطلح "نمط الخدمة العامة" في هذا الإطار، ليشير إلى منظومة من وسائل الإعلام التي تعمل على تحقيق أهداف؛ منها:

- الحفاظ على الوحدة والاندماج الوطنيين.

- تمثيل الفئات المختلفة في المجتمع تمثيلاً عادلاً وشاملاً ومتوازناً.

- تيسير المشاركة السياسية والمجتمعية.

- توفير المعلومات والمعارف وصيانة الحق في الاتصال.

- مراقبة أداء السلطات العامة والمجتمع المدني والمشروع الخاص والفعاليات المجتمعية.

- مراقبة عملية صنع القرار، والمساهمة فيها، وترشيدها.

- الدفاع عن المصالح الوطنية المتفق عليها.

- نقل ما يجري في العالم إلى جمهور الدولة، ونقل صوت الدولة والمواطنين إلى العالم.

وللقيام بهذا الدور على النحو الأمثل؛ فقد برزت تجارب عديدة؛ أهمها تجربة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، وهيئة الإذاعة الاسترالية (إيه بي سي)، وتجارب أخرى في بلدان مثل كندا، وألمانيا، والدنمارك.

وقد انطلقت تلك التجارب في عملها من واقع سياسي يمكن وصفه بأنه "مستقر"، و"ديمقراطي"، يعتمد منهجاً ثابتاً في الفصل بين السلطات، والتوازن والتحقق Cheeks and Balances المتبادل بينها.

ولكي يقوم إعلام "الخدمة العامة" بدوره؛ فقد تم تطوير قواعد معينة لمساعدته على الوفاء بهذا الدور؛ ومنها أن يكون الإشراف على "إعلام الخدمة العامة" أو "الإعلام العام" أو "الإعلام العمومي" أو "الإعلام المملوك للدولة" (أياً كانت التسمية) معقوداً لهيئات مستقلة غير تابعة مباشرة للسلطة التنفيذية، وهي هيئات قابلة للمحاسبة والمراجعة والتقويم، وأن يجري تعيين القيادات، ومحاسبتها، بواسطة الهيئات المستقلة، وليس من خلال السلطة التنفيذية.

كما يجب أن يكون التمويل من المال العام أو من أموال الرخص (مثل تجربة بي بي سي)، حيث يدفع المواطنون ضريبة (إتاوة) سنوية، ويتم جمعها وتخصيصها للإعلام العام، كما يقوم البرلمان (أو أجهزة مستقلة أخرى) بمراجعة الإنفاق والتأكد من سلامة التشغيل ونجاعته.

ومن الضروري أيضاً أن تنهض فعاليات مجتمعية عديدة بأدوار التحقق من أداء الإعلام العام؛ على رأسها منظمات المجتمع المدني المعنية، ووسائل "التنظيم الذاتي" Self-Regulation المهنية.

كما يجب أن يمتلك البرلمان الحق في مراجعة أداء المؤسسات الإعلامية العامة، وأن يسعى البرلمانيون إلى الاتساق مع وجهات نظر المجموعات السكانية التي انتخبتهم حيال أداء الإعلام العام.

وفي كل الأحوال، ينبغي أن يتم غل يد السلطة التنفيذية عن التحكم في مسار الإعلام العام وأدائه وسياساته التحريرية، وبالتالي يتم تحويله من نمط الأداء الدعائي إلى نمط "الخدمة العامة".

لكن ثمة من ينادي بضرورة تفكيك منظومات الإعلام المملوكة للدولة في بعض الدول العربية، إذ ينطلق هؤلاء من موقف سياسي يرى في تلك الوسائل تكريساً للاستبداد، ومن موقف اقتصادي يعتقد أن الأموال التي تنفق عليها يتم هدرها من دون تحقيق عوائد مناسبة... غير أن هذا التوجه خاطئ، وقد يؤدي إلى عواقب وخيمة.

فالدولة العربية ما زالت في مرحلة تحاول فيها تطوير أنساق سياسية واجتماعية واقتصادية رشيدة تتسق مع مطالب الإصلاح والقضاء على الفساد والاستبداد واختلاط المال بالحكم، ولذلك فإن تلك الفترة تحتاج إلى امتلاك الدولة منظومة إعلامية يمكنها أن تؤطر أهدافها وتنقلها للمجموع العام. كما أن بنية الإعلام الخاص ما زالت في عدد من الدول العربية من دون أي تنظيم ذاتي محكم أو نمط من أنماط الدقة العامة المعنية بضبط الأداء الإعلامي، كما أن بعض عناصر منظومة الإعلام الخاص تفرط أحياناً في انتهاك القواعد المهنية، وتستخدم كأدوات مباشرة لمصالح سياسية ومالية ضيقة.

إن التخلي عن وسائل الإعلام المملوكة للدولة في العالم العربي عبر التصفية أو الخصخصة يمكن أن يؤثر في حقوق ومراكز العاملين فيها، ويحرم المنظومات الإعلامية العربية من احتمالات الوصول إلى ممارسة مهنية غير مرهونة للاعتبارات التجارية، كما أن بقاء تلك الوسائل تعاني من الترهل والفساد وتراجع القدرة التنافسية والارتهان للحكومات والعمل كأداة دعاية للسلطة غير ممكن.

الحل يكمن إذن في ضرورة مراجعة حالة الإعلام المملوك للدولة في العالم العربي، بحيث يتم تحريره من هيمنة السلطة التنفيذية عليه، ليلتزم سياسات تحريرية تتسم بالاستقلالية والحياد، كما يجب أيضاً أن تتم إدارته بأساليب اقتصادية تضمن نجاعة الأداء ورشده على الصعيدين المالي والإداري.

* كاتب مصري

back to top