بنظرة سريعة على الطريقة المنهجية التي تسير بها الأمور، وبتقييم نفسي للموضوع، ذي صلة لا محالة بالتاريخ والسياسة الإقليمية الحالية، يبدو أن هناك حالة واضحة وقوية من انعدام الثقة بين الطرفين (أتكلم هنا عن الأطراف الطبيعية الشعبية لا عن المتطرفة أو المسيسة) السني والشيعي في الخليج عامة، وفي الكويت على وجه الخصوص، وهي حالة مستحقة في جوانب كثيرة منها ومبررة للطرفين.
فكلما استجد حدث، وبعد الكلمتين "الوطنيتين" اللتين حفظناهما ورددناهما جميعاً، يبدأ حوار اتهامي، منخفض التردد في البداية، في السريان على وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام، لترتفع وتيرته لاحقاً، ليتحول إلى حالة أقرب إلى "الولولة" على النفس منها إلى حوار مفهوم.نعم، حالة فقدان الثقة هذه مستحقة أحياناً تجاه وضع قائم حقيقي؛ فمثلاً، الأغلبية السنية تنظر بشيء من الاستغراب إلى المنتمين للمذهب الشيعي، ففي حين أنهم، في الضمير السني، لربما يكونون مسلمين، إلا أنهم طقوسيون ذوو اعتقادات غريبة غير عقلانية وممارسات لا يعترف بها السواد الأعظم من المسلمين، وفي الطرف المقابل، تنظر الأغلبية الشيعية إلى المنتمين للمذهب السني على أنهم يعلمون بـ"الحقيقة" التاريخية ويرفضون الاعتراف بها، وأنهم يبررون ما لا يجب ولا يمكن تبريره. الأغلبية السنية تعتقد حقيقة بوجود تعاطف شيعي خليجي مع إيران، بوجود نوع من الوجد والتواصل الروحاني بين الشيعة وهذه الدولة "المريبة"، في حين أن الأغلبية الشيعية تشعر بشدة بأقليتها أمام تحالفات سنية سياسية في المنطقة لربما تطغى عليها وتهمشها إن لم تهددها في حياتها.كل ما ذكرته أعلاه يحمل الكثير من الحقائق والكثير من المبالغات، ولكنني أعتقد حقيقة أن مواجهة انعدام الثقة هذه مهمة جداً في المرحلة الحالية، فحتى نستطيع أن نتجاوز تلك الحوارات العقيمة والاتهامات المبطنة والمعلنة، حتى نتوقف عن محاولة التصيد الطائفي والمتناقض، حتى يتوقف الزعيق ونبدأ نستوعب الكلمات بوضوح، حتى نخطو خطوة باتجاه الحل، لابد أن نخطو خطوة باتجاه الثقة، وحتى نخطو خطوة باتجاه الثقة، لابد من واحدة تسبقها باتجاه فهم أسباب غيابها، مدى حقيقة هذه الأسباب، ومدى مسؤولية كل طرف منها في تكوين وتشويه الوضع الراهن.أنا أعتقد أن كل الأطراف تتحمل المسؤولية بالتساوي، لا فرق في ذلك بين أقلية وأكثرية، الحقيقة تقول إن السنة ينظرون بشيء من الاستغراب المستنكر إلى الطقوس الشيعية، وأن الشيعة ينظرون بشيء من الاستنكار المستغرب إلى التاريخ السني، وهذان لا يمكن تغييرهما، فالأولى تدخل في الممارسة الدينية والثانية تدخل في العمق التاريخي، وأي محاولات تبرير لهما أو دفاع عنهما هي تضييع لوقت وجهد وحوار لطرشان بلا حتى آذان.أما موضوع التعاطف الشيعي مع إيران و"حزب الله" فهو حقيقة تسد عين الشمس، كما هي حقيقة التحالفات السنية السياسية المتوجسة من الوجود الشيعي والمتربصة به، الأولى يتم تبريرها بالثانية، "نستند إلى إيران بسبب مواقفكم من الشيعة"، والثانية يتم تبريرها بالأولى: "مواقفنا من الشيعة سببها استنادكم إلى إيران". هنا سنبقى ندور ونتساءل، الدجاجة أولاً أم البيضة؟ أنا شخصياً لا يهمني هذه أم تلك، يمكنني أن أبقى نباتية عمري كله وأرتاح، ولكن الواقع أن الكثيرين مهتمون، والكثيرون مستعدون لسن "ألسنتهم" من الطرفين، مساندة للبيضة أو تأييداً للدجاجة، هنا يجب أن يبدأ الحوار، بل يمتد إلى عمل حقيقي، حتى ننتهي إلى شيء من السلام.على الشيعة أن يراجعوا مواقفهم بحق، أو يروضوا بعض الشيء مشاعرهم المفعمة المشتعلة طوال الوقت، وأن يكفكفوا الدمع وينظروا إلى واقع الحال وإلى تكلفة تأييداتهم ذات البعد السياسي الذي لا يفقه حقيقته أو حجمه الكثير من عامتهم، يشعرون به ولاءً دينياً غير منتبهين إلى التعبئة السياسية الخطيرة المرفقة، بل مشككين فيمن ينبه إلى مخاطرها.وعلى السنّة أن يراجعوا مواقفهم بحق، وأن يروضوا شكوكهم الملحة طوال الوقت، وأن يقبلوا حقيقة "الخلجنة" الخالصة للمواطنين الشيعة، وأنه مثلما "داعش" أقلية مجنونة، فخلايا "حزب الله" المندسة هي أقلية مجنونة كذلك، حتى يغلب حسن الظن التخوين، ويختفي مع الوقت الشعور الملح بقحاحة البعض وعجمية البعض الآخر.لنواجه أنفسنا، وليواجه كل طرف حقيقته، ويحاسب نفسه بدل أن يبرر ويحلف بأغلظ الأيمان ويسوق الحجج، فالموضوع ليس خطيراً فقط، وليس قبيحاً فقط، إنه ممل إلى حد الموت الذي يقود إليه.
مقالات
«القحاحة العجمية»
07-09-2015