منذ زمن طويل، ولاسيما منذ الأزمة المالية العالمية، اعتقد العديدون أن عمليات التمويل تضر بالاقتصاد، وثمة ما يبعث على القلق في رؤية القطاع المالي، وهو يلعب دوراً متزايداً إزاء ما يقوم الناس به من أجل العيش، وبعد كل شيء فإن التمويل عبارة عن تخصيص موارد ودفع أسعار الأصول الى قيمتها الصحيحة بحيث تستطيع الشركات معرفة المشاريع التي يتعين عليها الاستثمار فيها، ولكن عندما يتم استخدام نسبة ضخمة من الجهد والمال في عمليات التمويل تتقلص موارد اعادة التخصيص بشكل متزايد، وليس بوسعنا جميعا الحصول على ثروة من خلال المتاجرة بالمنازل والسندات.

Ad

قد يستبعد النقاد هذه المخاوف باعتبارها من ارث الماضي، حيث انتقلنا من الزراعة الى التصنيع، فلماذا لا ننتقل الآن من التصنيع الى الخدمات؟ وإذا كان السوق يرغب في دفع 7 في المئة من اجمالي انتاجنا الوطني الى التمويل فلا شك أن هذا التمويل يحقق ما يمكنه من البقاء والاستمرار.

ويراوح هذا الجدال جيئة وذهاباً، ويوجد دراسات قليلة تقول إنها توصلت الى تحديد صلة بين التمويل وتباطؤ النمو، ولكن من الصعب إثبات تلك الصلة، وعلى سبيل المثال فإن دراسة صدرت سنة 2008 عن الاقتصادي التركي اوزكور اورخاناغازي أشارت الى أن التمويل ينمو عندما تتباطأ الاستثمارات في بقية قطاعات الاقتصاد، ولكن ذلك لا يوفر دليلاً على العوامل السببية التي أفضت الى هذه الحصيلة، ثم ماذا لو أن التمويل والصناعات الأخرى خرجا ببساطة عن مسارهما؟ لقد ابتليت دراسات اخرى بالصعوبة ذاتها.

وتقول ورقة صدرت ستيفن سيشيتي واينيسي خروبي من بنك التسويات الدولي انها توصلت الى علاقة ضيقة بين التمويل والنمو، وبمجرد أن يتجاوز التمويل نقطة معينة يتوجه النمو الاقتصادي نحو التباطؤ. ولكن هذا التحليل يظهر وجود ترابط فقط، وليس عوامل مسببة، وربما أن الدول مع تباطؤ النمو تصبح ببساطة في حاجة الى وضع مزيد من الموارد في قطاع التمويل من أجل استكشاف فرص الاستثمار المتبقية.

ومن الصعب جداً حل هذه المسألة من دون وجود فكرة ما حول الآلية التي يفضي من خلالها التوسع المفرط في التمويل الى حدوث تباطؤ في الاقتصاد، وقد يتبين لنا أن التمويل وتباطؤ النمو هما حصيلة عامل ثالث ليس إلا.

ومن المثير للاهتمام توصل فريق من الاقتصاديين الى ذلك العامل الثالث؛ فقد صدر عن جيانلوكا بينيغنو وناثان كونفرس ولوكا فورنارو ورقة جديدة اقترح ذلك الفريق فيها ما يدعى "لعنة الموارد المالية"، وتقول هذه النظرية المالية إن المسؤول الحقيقي عن تباطؤ النمو الاقتصادي قد لا يكمن في التمويل بل في شريحة متنوعة من الاستثمارات المالية من دول أجنبية.

وبغية فهم الصورة المالية من الفكرة التي تدعى لعنة الموارد يتعين علينا ان نتذكر الشيء الذي تضمنته النسخة الأصلية منها، ولعنة الموارد هي الاسم الذي أطلقة خبراء الاقتصاد على الحقيقة الغريبة المتمثلة في كون الدول ذات الموارد الطبيعية الأوسع تميل إلى مواجهة درجة من التباطؤ الاقتصادي بقدر يفوق ما تتعرض له الدول ذات الموارد الأقل. والكثير من هذه العوامل سياسية ولكن بعضها يرجع الى معدلات الصرف. وعلى سبيل المثال كلما ازدادت صادرات النفط أو النحاس من دولة ما أصبحت عملتها أغلى وازدادت صعوبة تصديرها أي شيء آخر غير النفط أو النحاس وهو ما يعرف بإسم المرض الهولندي.

وعندما تتدفق الأموال الأجنبية على بلد ما فإنها توجه موارد ذلك البلد نحو البناء او التمويل، ويحتاج التصنيع بشدة الى الموارد، وهو يسهم بقدر أقل في الاقتصاد، كما ان تدفق الأموال على البلد يفضي الى ازدهار قطاع التمويل، نظراً لضرورة وجود بنوك ومؤسسات مالية اخرى من أجل توجيه وادارة تلك الأموال.

ويفضي ذلك في الأجل القصير الى ازدهار اقتصادي، ولكنه مهلك في الأجل الطويل، والتصنيع هو القطاع الذي شهد أكبر مكاسب في الانتاجية خلال العقود الأخيرة، وهذا يعني أن حرمان التصنيع سوف يتسبب في جعل تدفق رأس المال يخفض الانتاجية.

وقد استخدم فريق الخبراء المذكور اعلاه اسبانيا على شكل مثال رئيسي له، وبدأت اسبانيا منذ اواخر حقبة التسعينات من القرن الماضي بالتعرض الى تدفقات ضخمة من رأس المال من خارج حدودها وتوجه الكثير من تلك الأموال الى قطاع السكن، وتراجعت الانتاجية نتيجة لذلك، وأصبحت اسبانيا اقل كفاءة.

وهكذا يمكن القول إن التمويل قد يشكل أحد أعراض مرض أكبر، لعنة توافر الكثير من الأموال الأجنبية، ويكمن الحل عندئذ في قيام الحكومة بشراء الأصول الخارجية، ولعل الشيء الأفضل اذا قامت دولة ما بإرسال أموال اليك أن تعيدها اليها على الفور.

* Noah Smith