(الجوع) و(الوجع) كانا المحورين الأساسيين في كتاب الدكتورة الأميركية روبن سميث، المتخصصة النفسية والعلاجية وذات الحضور الإعلامي المُلهِم. وكعادة الكتابة المؤثرة نرى المؤلفة تجعل من جوعها ووجعها الشخصي منطلقاً لتفنيد الجوع الإنساني العام، ذلك الجوع إلى الحب والصداقة والتقدير الذاتي والأمن النفسي والتحقّق، لا بالمعنى المجاني والممارسات اليومية المرتجلة بل بأبعاده التي تمس جوهر الروح.

Ad

لقد حدست المؤلفة بأن عالمها (وعالم الناس إجمالاً) مشوب بنسخ مرتجلة ومخادعة من أشكال الحب والصداقات والعلاقات المهنية الخاوية أو الملتبسة، الأمر الذي يجعل الإنسان في حالة جوع دائم وممضّ، وفي حالة توق موجعة إلى الشبع النفسي والرضى الروحي. وهي في رحلة بحثها عن هذا الهدف تدعو إلى نبذ كل أشكال الخداع التي تشوه العلاقات الإنسانية، والحفر وراء أسّ كل نوع من أنواع الجوع البشري ومحاولة فهمه وتلمسه دون خوف أو تردد، فالفهم والاعتراف هما الطريق الوحيد للتحرر من هذا الجوع.

 من ضمن أنواع الجوع الإنساني التي وقفت عندها المؤلفة الجوع إلى النجاح والتميّز. وهذا اللون من الجوع يبدو أكثر ضراوة وحِدّة عند المشاهير ونجوم الفن خاصة، ونضيف في هذا المقام نجوم الأدب أيضاً، فخلال مشوار الكدح للبروز والتفرد يجد أولئك أنفسهم في لحظة من لحظاتهم التاريخية وقد بلغوا قمةً ما في الأداء أو الابتكار، وصار لهم مريدون وجماهير يعززون هذا النجاح والتألق. ولكن الوصول إلى القمة قد يحمّل نجوم الفن ونجوم الأدب أعباءً مستحقة السداد، حين يطالب المريدون والجماهير نجمهم المفضل بالبقاء على قمته متألقاً ودائم السطوع. ولكن قوانين الزمن ومنعطفات العمر وتقلص القدرة جميعها لا تتيح استمرار هذه الهبة، حين يبدأ النجم الساطع في الخفوت وينزلق شيئاً فشيئاً عن القمة.

 من هنا يبدأ الوجع وتتعالى وتيرة القلق والتشبّث المَرَضي بما هو فوق الاحتمال. ولعل هذا ما يفسّر لجوء الكثير من مشاهير الغناء والسينما على وجه الخصوص - كما تقول المؤلفة - إلى إسكات جوعهم ونهمهم للبقاء على القمة باللجوء إلى المخدرات والإدمان بأنواعه. وهناك فئة أخرى حاربت الزمن وانحسار الأضواء باللجوء إلى عمليات التجميل والترقيع والتخسيس وصباغة الشعر وزراعة الأسنان، ثم أدمنت على ذلك وتمادت حتى فقدت هيئتها البشرية وروحها السوية. إن ما قتل مايكل جاكسون وويتني هيوستن وألفيس بريسلي وغيرهم ليس الهوس بالمخدرات، وليس الحُلم بالجمال الدائم بحدّ ذاته، بل جوعهم إلى البقاء فوق القمة التي لم يعودوا قادرين على أعبائها.

أما في ما يخص نجوم الأدب، فهناك القلة ممن يدركون نضوب الموهبة وتقلص القدرة مع تقدم العمر أو المرض، فيتهيأون لمتغيرات المرحلة بالكثير من الرضى والقناعة، محافظين بذلك على تاريخهم الجميل دون شوائب أو إضافات لا تضيف. بيد أن البعض الآخر يظل على اعتقاده بأن القمة ما تزال له، فيظل يكرر نفسه أو ينحدر إلى ما دون ذلك، مشيّعَاً بهتافات المنافقين وأشباه الأصدقاء، وربما بالمشفقين الذين يتوجسون خيفة من إبدء رأي أو مشورة. وهكذا تستمر لعبة الخداع بين الطرفين نحو ما لا يُحمد عقباه.

 بالعودة إلى كتاب "روبين سميث"، نراها تقترح بأن أفضل علاج "لأوجاع القمة" هو اعتراف الشخص ذاته لنفسه ولجمهوره بما اعتراه من قصور، اعترافاً مباشراً أو ضمنياً، ثم التصرف بما يتناسب ووضعه الراهن دون خداع أو مواربة. وسوف يُفاجأ بما يكنه له جمهوره ومريدوه من تقدير وفهم عميقين، بل واعتراف بما تركه من بصمة أو أثر في مجاله.

وهكذا يظل للإنسان بقية من قيمة وجمال وفضل حتى وهو بعيد عن القمة، فهو لم يعد جائعاً لشيء بعد أن شبع واكتفى وتصالح مع نفسه ومع الحياة.