زينة القلب!

نشر في 07-01-2016
آخر تحديث 07-01-2016 | 00:01
 مسفر الدوسري واحدة من أروع ما تمنحه الحياة لشخص ما، أصدقاء يشيخ بقربهم!

أصدقاء يمضي وإياهم مراحل العمر المختلفة إلى أن يشيخ، وشهدوا ولادة أول شعرة بيضاء تحتل مساحة من رأسه، وشاركوه تلك الرحلة الطويلة من أرض السواد إلى ربيع البياض، وساهموا معه في كتابة بعض فصولها، لدرجة أن بعض الصفحات لم تزل تحمل رائحة حبرهم طريّة نديّة، وخطوط أيديهم مازالت وشوماً لم تُمح بها، أصدقاء يتذكرون جيداً ملامح وجهه قبل أن تبدأ التجاعيد بالتدخل في تشكيله، ووضع بعض لمساتها الواضحة عليه، وطباعه قبل أن يتدخل الزمن بمشرطه في الإضافة عليها أو الاستئصال منها، ومقاس ملابسه قبل أن تزداد طولاً أو عرضاً، عاصروا كل ذلك وحفظوه جيداً، ورافقوا كل التغيرات التي مرّ بها خطوة بخطوة، ولحظة بلحظة، وفرحة بفرحة وحزناً بحزن، لم يتخلفوا عن أي طارئ مرّ في مسيرة عمره، ولم يغيّبهم الزمان أو المكان عن أي عارضٍ اعتراه، هؤلاء هم القلة القليلة التي تحفظ تاريخ طيشه، وتتذكر التفاصيل الدقيقة لآثار "صبيانيته"، وتعرف أين خبّأ ضحكاته القديمة، وأين دفن جمر دموعه، وتعرف الكثير من أسراره الصغيرة، والتي ربطها بحجر وألقى بها في الدرك الأسفل من قاع ذاكرته، ليشاركوه الحديث عنها بعد عمر حين استرجاع ذكرياتها، واستعادة طعمها بإضافة سكّر الظرافة والتعليقات الساخرة عليها، يكبر هو ويكبر رفاق صباه، وتأخذهم دروب الحياة إلى مسارات مختلفة، وجهات لا تلتقي، إلا أنهم يصرّون على أن تتقاطع دروبهم مع دربه ليس بمحض الصدفة، وإنما بمحض الرغبة الصادقة منهم في البقاء بجانبه، حريصون على أن يكون جزءاً من حياتهم وذاكرتهم الحيّة، ويكونوا جزءاً من حياته وذاكرته المضاءة، تمر السنون تلو السنين، وهم دائماً بالقرب في متناول قلبه، وعلى مرمى من قبضة شوقه، وفي دائرة حياته الحاضرة، وهو كذلك بالنسبة لهم، محظوظ من يحظى بمثل هؤلاء الأصدقاء الذين يمضي به العمر معهم إلى أن يشيخوا معاً، وطوبى لمن يجد حوله في كل سنة يخطو عتبتها وجوهاً ألفها جيداً، وعرفها حق المعرفة، واختبر وفاءها على مرّ السنين.

إن شعوراً كهذا لن يعرف مذاقه إلا من استطعمه، ولن يحس روعته إلا من شعَر به، ولن يقدّر قيمته إلا من اختبره.

هذه النوعية من الأصدقاء ورفاق العمر هم مساحة الأمان التي يبتنيها المرء لذاته، والقناديل التي نطرد بها عن الروح الوحشة وهم من اصطفاهم فلتر الحياة ليكونوا كنز العمر، وزينة القلب التي لا تفنى ولا يصيبها الصدأ، والأهم من ذلك كله أن هؤلاء هم الدليل الحي الوحيد على أنك كائن اجتماعي رغم اختلافك الطبيعي في ذاتك فإنك تستظل شجرة الألفة مع غيرك من البشر، وتستطعم ثمرها، إذ ليس أشرّ من اختلاف يجعلك وحيداً مستأذباً متوحشاً، محظوظ من يجد في مشوار عمره رفقة تؤنسه، محظوظ من يحتفظ في قلبه بمثل تلك الزينة من الأصدقاء، أقول هذا وأنا أنظر إلى المرآة وأرى جلياً ذلك الشعر الأبيض، وألتفت لقلبي فأجد تلك الزينة من الأصدقاء معلّقة في صدر مجلسه فأحمد الله أنني أحد المحظوظين الذين شابوا برفقة أصدقائهم.

كل عام وأنتم يا أصدقائي زينة القلب.

back to top