أشياء غرفة «9» الواقفة

نشر في 01-11-2015
آخر تحديث 01-11-2015 | 00:01
 ناصر الظفيري كتاب صغير الحجم لا يتجاوز الستين صفحة، ولكنه كتاب حاد مركز جدا كرحيق، مصنوع بحرفة وخبرة كتمثال نحاس جيد السكب دقيق الصنع حزين الملامح، وكأنه خارج من تجربة الحياة نحو الفقد. هو التجربة الثالثة للقاصة استبرق أحمد بعد تجربتين حملت الأولى عنوان "عتمة ضوء" ونالت استحسان النقاد حينها، وحازت جائزة الأديبة ليلى العثمان في دورتها الأولى عام 2004. وتجربتها الثانية "تلقي بالشتاء عاليا" ونالت عنها جائزة الدولة التشجيعية عام 2011. ولكن هذه التجربة تبدو مغايرة في جنسها الأدبي لتمازج بين القصة القصيرة والبوح الذاتي في لغة سلسة جزلة مهيبة تنحو إلى الشعرية في ما يشبه بكائية الفقد دون نشيج أو عويل.

"الأشياء الواقفة في غرفة 9" رغم "بخل" السرد، وهو ما سأناقشه لاحقا، تجربة كتابية ذات جنس تجريبي أبطاله ليسوا شخوصا بكامل حواراتهم وحركتهم، وتنساب أحداث حياتهم إلى بؤرة حدث محدد أرادته الكاتبة ليكون أساس بوحها المؤلم منذ بداية حياة الأم إلى نهاية حياتها ونهاية السرد في الوقت ذاته تاركة الصفحة الأخيرة لبكائها الخاص بترديد كلمتي "الفقد" و"الفراق" كنشيج متصل، يتوسط الصفحة اسمها "استبرق" إيحاء منها بأن كل ما مر كان يعنيها ذاتيا.

تشير لقارئها بأن الكتابة في الجزء المعنون "بيت آسيا" هو جزء حميمي وذاتي وليس تخيلا قصصيا.

ما يميز تجربة استبرق أحمد في السرد هو ابتعادها عن استخدام بكائيات ومرثيات مكررة عادة في حالات الفقد واعتمادها على التفاصيل الدقيقة التي تسبق حالة الغياب الأخير، لا نستمع للوجع الذي يصاحب عادة موت الأم ولكننا نعيشه بهدوء.

في السردية الأكثر تأثيرا وربما هي القصة القصيرة الوحيدة التي جاءت مدهشة وموجعة تلك التي حملت عنوان الكتاب. هذه الأشياء الواقفة في الغرفة تقابلها المرأة/ الأم التي لا تستطيع الوقوف. وهي أشياء قد توحي لنا بالحياة كالثلاجة المنتصبة أو الخزانة أو جهاز التغذية المنتصب أمام السرير وهي نقائض الموت التي لم تتطرق لها الساردة.

هذه الأشياء العمودية تقابلها أفقيات الموت، ولكن الساردة هنا تكره هذه الأشياء التي توحي بالحياة ولا تملك منحها للأم المحتضرة. وهذه الأم التي كانت واقفة كنخلة أو قمة جبل هي الآن ممدة وستبقى ممدة حتى النهاية.

"أمي

مازلت لا أمشي على الأرض.

مازلت أخوض بنهر لا تجف كائناته البكاءة

مازلت أعيش لأندم... لأفهم لأتذكر".

كتابة استبرق الأخيرة كان سردها الحميمي محمولا على لغة من النقاء والقدرة على التصوير الجميل تجعلنا أكثر طموحا في مطالبتها بما هو أكثر. من حق استبرق أن تقتصر في أعمالها على هذا الدفق الحاد واعتمادها طريقاً تختاره في سيرتها الأدبية التي بدأتها، وليس لنا أن نختار لها الشكل أو الطريق الذي تسلكه، لكن ذلك لا يمنعنا أن نبدي رأياً في مسيرتها الناجحة منذ عشرة أعوام تقريبا لنطالبها بالمزيد.

أشعر شخصيا بأن استبرق من كاتباتنا اللواتي يمتلكن ناصية الخيال واللغة للعمل على مشروع سردي يليق بقدراتها الإبداعية.

back to top