السؤال الأكثر انتشارا هو: هل هناك مستقبل للكتابة والأدب، أم ان الصورة في عالم وشبكات الإنترنت هي الاكتساح الماحق القادم؟

Ad

لم يعد هذا السؤال كافتراض متخيل بل بات واقعا فارضا نفسه على كل المجالات والمستويات، فعالم الإنترنت السريع المتطور بات من الصعب ملاحقته من قبل وسائل العالم القديمة التي منها الكتابة الأدبية والورقية المتمثلة في المجلات والجرائد والكتب الفنية والثقافية، والكثير منها بالفعل بدأ يغيب عن الساحة ويتوقف عن الصدور، والبعض الآخر توجه للعالم الجديد وقبل حالة التغير هذه كواقع لابد منه، فالأغلبية الساحقة من الشباب نسوا الكتابة وانخرطوا في بريق العالم الجديد، لكن هناك الكثير من الذين مازالوا ينتمون إلى عالم الكتاب الأدبي، ويتشبثون به خاصة الكتاب وعلى رأسهم الروائيون، وأنا واحدة من هؤلاء الذين مازالوا يعشقون ملامسة الكتاب الورقي وتصفحه ووضع العلامات على صفحاته ومصاحبته في الحل والترحال، فهو الصديق الذي لا يُستغنى عن صحبته التي تعيد تشكيل رؤية وروح وفكر القارئ له، وهو الذي يرافقك حتى الفراش يتقلب معك ويسمح باستعماله بالطريقة المريحة لوضعك في الاستلقاء والجلوس، ولا يوجد أي جهاز سمعي أو بصري سهل الحركة يماثل ليونة وسهولة حركة الكتاب.

وسأنقل رأيا أفضل وأعلى في مستواه التحليلي والرؤيوي، وهو لكاتبي المفضل ماريو فرجاس يوسا، حين سئل ذات السؤال الذي أوردته كعنوان للمقال من مجلة لوبان، وهو: «قد يبدو لك هذا السؤال متشائما بشكل رهيب، أو استفزازيا، لكن في ظل ثقافة تسلية الجماهير، والترفيه العالمي والفوري، وفي ظل الترفيه السمعي - البصري وبشكل أفضل ترفيه وسائل الإعلام المتعددة - ما جدوى وجود الكاتب؟».

وهذا هو رد يوسا العميق والمهم في تحليله: «لا أعتقد أن الأدب مهدد من ناحية الترفيه السمعي والبصري، لأن الأدب هو السبيل الوحيد الفعال للسيطرة على اللغة -واللغة هي الشيء الجوهري- ليس فقط لأنها تسمح لنا بالتعبير عن أنفسنا بطريقة ذكية ودقيقة، وبالوضوح الذي نراه ضروريا، بل إن اللغة هي الوسيلة التي تسمح لفكرنا بتنظيم نفسه، اللغة هي التي تهيكل خيالنا وتطلق عنانه، وتحكم حساسيتنا وعواطفنا ومشاعرنا، وهذا الغنى وهذا الثراء لا يمكن الحصول عليهما بمشاهدة التلفاز أو رؤية الأفلام، إنها الأجناس الأدبية كالرواية والشعر والأعمال الأدبية العظيمة التي تمنح المرء هذا الثراء الفكري، إن لغة الصورة لغة جذابة جدا تمنحك الكثير من الأحاسيس الآنية، لكنها أحاسيس عابرة - عابرة جدا، وحده الأدب، وخصوصا الرواية يمكن أن تمنحك الوعي بأن العالم كما هو سيئ الصنع، وعلى أية حال ليس العالم منسوجا على شاكلة توقعاتنا وطموحاتنا ورغباتنا وأحلامنا- هذا التمرد ضد العالم كما هو، وحده الأدب ينقل لك هذا الشعور منذ أول اتصال لك بكتاب، ثم بشكل دائم، حتى يصبح هذا الشعور بالتمرد جزءا جوهريا في شخصيتك، إذا كنا نريد أن تكون مجتمعاتنا حرة، دينامية، تسود فيها ديمقراطية حقيقية، فإننا سنكون في حاجة إلى مواطنين مستائين حقا من العالم كما هو، مواطنين متعطشين للمطلق. إن الأدب محرك الشعور والتذمر من غياب الكمال، فعل القراءة، هو احتجاج ضد مظاهر عدم الكمال في الحياة، فعل القراءة يعني أن يكون المرء في حالة تأهب مستمر ضد جميع أشكال القهر والاستبداد، فعل القراءة هو درع واق ضد مناورات أولئك الذين يريدون إيهامنا بأن العيش بين القضبان، هو طريقة للعيش في أمان، لأن الأدب يجعل المرء يرغب في حياة أخرى، حياة بديلة عن الحياة الفعلية الواقعية التي لا تمنح الشعور بالكمال، إن الأدب ينمي الروح النقدية والعقلية المولعة بالمثل العليا، في حين أن الآليات السمعية والبصرية الرائعة تبقى حاضرة من أجل تسليتنا وخلق مواضيع سلبية وامتثالية، ان العالم دون أدب هو بمنزلة عالم خال من روح النقد المتحدي، عالم الإنسان الآلي».

هذه رؤية تحليلية عظيمة لكاتب عبقري يرى أن الكتابة نشاط انعزالي جدا وحميمي، لذا لم تغير به جائزة نوبل ولا كل الجوائز الأخرى من روحه ونظرته لنفسه وللكون، وبقي على تواضعه وتقديسه للكتاب والكتابة، ورأيه هذا يمنح الأمن والأهمية والاستمرارية لحياة الأدب والكتابة رغما عن كل فيضان الصورة.