الأمم المتحدة ما زالت عاجزة عن منع ذبح المدنيين

نشر في 14-07-2015
آخر تحديث 14-07-2015 | 00:01
كان للنقض الروسي بشأن الإبادة الجماعية بحق البوسنيين معنى أكثر إيلاماً بالنسبة إلى مسؤولي الأمم المتحدة، فبعد مرور 20 سنة على إخفاق مهمات حفظ السلام في رواندا والبوسنة في وقف إبادتين جماعيتين ما زالت هذه الهيئة العالمية تتخبط للتوصل إلى طريقة لتطبيق أحد أهم تفويضاتها الأساسية: حماية المدنيين.
 ذي أتلانتك أعاد السفير الروسي فيتالي تشوركين، بتلويحة من يده، مجلس الأمن في الأمم المتحدة بالزمن إلى الوراء، فرفع يده ليستخدم حق النقض ضد قرار ترد فيه عبارة "إبادة جماعية" لوصف عملية القتل الجماعي التي أودت بحياة 8 آلاف مسلم بوسني في سربرنيتشا قبل 20 عاماً هذا الشهر، واعتبر تشوركين أن هذا يعزز الانقسام في يوغوسلافيا سابقاً،

ويشكل هذا الرفض المثال الأخير على جهود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الواسعة النطاق للتحكم في التاريخ، واللعب على القومية السلافية، وتحدي الغرب، فقد أثنى المسؤولون الصربيون على موسكو لمنعها "محاولة تلطيخ صورة كامل الأمة الصربية باتهامها بارتكاب إبادة جماعية".

ولكن بالنسبة إلى مسؤولي الأمم المتحدة، كان لهذا النقض معنى أكثر إيلاماً، فبعد مرور عشرين سنة على إخفاق مهمات حفظ السلام في رواندا والبوسنة في وقف إبادتين جماعيتين، ما زالت هذه الهيئة العالمية تتخبط للتوصل إلى طريقة لتطبيق أحد أهم تفويضاتها الأساسية: حماية المدنيين.

مع بلوغ عدد اللاجئين رقماً قياسياً (60) مليون لاجئ حول العالم والانقسام الروسي-الأميركي المرير في مجلس الأمن، أصبحت مهمة حماية المدنيين بالنسبة إلى الأمم المتحدة أكثر صعوبة مما كانت عليه في تسعينيات القرن الماضي.

تجاهل دروس الماضي

بالإضافة إلى ذلك، تزداد المخاوف، حتى بين كبار المسؤولين في الأمم المتحدة من أن مجلس الأمن المنقسم يتجاهل دروس الماضي، فقد بعثت الأمم المتحدة أخيراً قوات حفظ سلام في مهمات خطيرة إلى مالي والكونغو، إنما من دون أن تمدها بالموارد الحيوية والدعم السياسي الضروري.

يذكر مسؤول بارز في الأمم المتحدة طلب عدم ذكر اسمه: "توجهنا بسذاجة إلى شمال مالي، إلى تلك البيئة العدائية جداً من دون أن ندرك تداعيات تلك الخطوة"، وحذر من أن النتيجة ستكون "مقتل الكثير من جنود قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة... وانسحاب مهين، وإخفاق المهمة بأكملها".

قبل أسبوع من اجتماع مجلس الأمن يوم الأربعاء، عقد نحو 36 جندياً من قدامى قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة التي شاركت في مهمة البوسنة مؤتمراً في غرفة لفتها أشعة الشمس في لاهاي، كان هدف هذا المؤتمر البحث عن دروس يقدمونها لصنّاع السياسات اليوم.

أمل المنظمون (متحف المحرقة التذكاري الأميركي ومعهد لاهاي للعدالة العالمية) أن تعزز الخصوصية ومرور الزمن الصراحة والانفتاح، وهذا ما حدث بالفعل، ففي اجتماعين خاصين ومجلس علني طوال نهارين، أقر الدبلوماسيون، والجنرالات، ومسؤولو الحكومة بأخطائهم في سربرنيتشا، كذلك تناولوا الأرقام القياسية التي تسجلها مهمات حفظ السلام اليوم، فمع كلفة تبلغ راهناً 8 مليارات دولار سنوياً، يخدم نحو 100 ألف جندي في قوات حفظ السلام في 16 عملية حول العالم.

أوضح كارل بيلدت، رئيس الوزراء السويدي السابق الذي خدم كمبعوث الاتحاد الأوروبي الخاص إلى يوغوسلافيا سابقاً: "يجب ألا تكون الجريمة الرئيسة المحاولة، بل ينبغي أن تكون البقاء في المنزل وعدم المحاولة"، لكن سربرنيتشا أظهرت أن الجهود الدولية الناقصة يمكن أن تزيد الأوضاع سوءاً، فقد حدثت عمليات القتل الجماعي تلك بعد أن جردت قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة المدافعين البوسنيين المسلمين في البلدة المحيطة من أسلحتهم الثقيلة، ووعدت نحو 40 ألف شخص يسكنونها بالحماية، وهكذا أعلنت قوات حفظ السلام سربرنيتشا "منطقة آمنة" منزوعة السلاح تابعة للأمم المتحدة، كذلك أُعلنت خمس مدن محاصرة أخرى في البوسنة، بما فيها سراييفو، مناطق آمنة تابعة للأمم المتحدة.

سجن كبير

تحولت سربرنيتشا عملياً إلى سجن كبير في الهواء الطلق، وفق جنود قوات حفط السلام الهولنديين والمسلمين البوسنيين الذين شاركوا في المؤتمر، فقد عجزت القوات الهولندية عن وقف الصدامات العسكرية المتواصلة المحدودة النطاق.

بحلول الوقت الذي هاجم فيه الصرب هذا المعقل في شهر يوليو عام 1995، كانت القوة التي تدافع عنها تتألف من 450 جندياً هولندياً من قوات حفظ السلام مزودين بأسلحة خفيفة، والقليل من الوقود، وذخيرة منتهية الصلاحية، وقبل شهر من الهجوم، كان القائد الهولندي قد أبلغ رؤساءه أن وحدته ما عادت فاعلة عسكرياً.

في البداية، هاجمت القوات الصربية البوسنية هذا المعقل لتقلص حجمه، وذلك وفق وثائق عسكرية صربية بوسنية حصل عليها المدعون العامون في محاكمات جرائم الحرب، ومع اقتراب القوات الصربية من المنطقة، انكشف لغز مهم ما زال غامضاً في الحرب في البوسنة.

بأمر من القائد العسكري الأعلى لقوات الأمم المتحدة في البوسنة، أقامت مجموعة مزودة بأسلحة خفيفة من قوات حفظ السلام الهولندية حاجز صد خارج البلدة، وأُبلغ الهولنديون أن أي هجوم مباشر على قوات حفظ السلام سيطلق في الحال دعماً جوياً مكثفاً من طائرات حلف شمال الأطلسي التي كانت تحلق في الأجواء.

لذلك عندما تعرض الهولنديون لإطلاق نار، طلبوا رسمياً دعم حلف شمال الأطلسي الجوي، لكن القائد الأعلى لقوات الأمم المتحدة، الجنرال الفرنسي برنار جانفيه، رفض ذلك.

طوال العقدين الماضيين، تحول قرار جانفيه هذا إلى محور الكثير من الجدل ونظريات المؤامرة، فقد أصر البوسنيون وغيرهم على أن المسؤولين الفرنسيين، والأميركيين، والبريطانيين تعمدوا السماح لسربرنيتشا بأن تسقط لأن ذلك سهّل انقسام البلد.

لكن المسؤولين في المؤتمر، الذين عملوا مع جانفيه، ذكروا أن الجنرال قرر على الأرجح رفض الطلب هو بنفسه، فقد اعتقد جانفيه بصدق، وفق هؤلاء المسؤولين، أن الهجمات الجوية ستخفق في وقف التقدم الصربي، إلا أنها ستنجح في إثارة سخط القادة الصرب، مما يزيد على الأرجح الوضع سوءاً.

في اليوم التالي، أي 11 يوليو 1995، سقطت سربرنيتشا بين يدي القوات الصربية، فمنح هذا النصر السريع الجنرال راتكو ملاديتش، قائد الجيش الصربي البوسني، دفقاً من الجرأة، فطرد 25 ألف امرأة وطفل من البلدة، كذلك طاردت قواته نحو 15 ألف رجل بوسني مسلم حاولوا الفرار إلى ملجأ آمن في وسط البوسنة.

أعدمت قوات ملاديتش ما مجموعه 6 آلاف سجين، ويُحاكم ملاديتش اليوم في لاهاي بسبب جرائم الحرب التي ارتكبها، بعد أن نجح في الهرب طوال 15 سنة.

إخفاق «المناطق الآمنة»

في عرض واضح لتقلبات الذاكرة البشرية، قدّم المشاركون في اجتماع الأسبوع الماضي في لاهاي روايات ألقت باللوم ومسؤولية هذه المأساة على مجموعات أخرى لا مجموعتهم، ولام مسؤولو الأمم المتحدة الولايات المتحدة، وفرنسا، وبريطانيا لإقامتها "مناطق آمنة" أخفقت في نشر عدد كاف من الجنود للدفاع عنها، أما الهولنديون، فيلومون جانفيه لأنه رفص طلبهم الدعم الجوي المكثف، ووفق زملائه السابقين يلوم جانفيه الهولنديين لأنهم لم يُقاتلوا الصرب بشراسة أكبر على الأرض، وتلوم البوسنة بدورها كل الأجانب.

في النهاية أجمع المسؤولون خلال هذا اللقاء على أن الكثير من الحكومات والمنظمات والمجموعات المختلفة أخفق في حماية شعب سربرنيتشا، وشمل الملامون أيضاً الصحافة، وفي تلك الفترة كنت أغطي هذا الصراع لصحيفة Christian Science Monitor لكني كنت مقتنعاً بأن القتال وصل إلى حالة جمود؛ لذلك كنت في عطلة حين سقطت البلدة.

عندما ننظر إلى تلك التطورات اليوم، ندرك أن شعب سربرنيتشا كان ضحية مؤامرة من الإهمال، وأنصاف التدابير، وعدم الكفاءة، فلم يقدّم المسؤولون الأميركيون، والأوروبيون، والبوسنيون موارد كافية لحماية سربرنيتشا.

جاءت الأخطاء الفردية لتضاعف هذه الكارثة، وخصوصاً إخفاق جانفيه في الموافقة على دعم حلف شمال الأطلسي الجوي.

من بين وجهات النظر التي وددت الاستماع إليها تلك التي طرحها روبرت سميث، قائد بريطاني سابق محترم جداً في قوات الأمم المتحدة، فبعد سقوط سربرنيتشا، يُعزى الفضل إلى سميث لأن دعمه استخدام قوة حلف شمال الأطلسي الساحقة ساهم في إنهاء حرب البوسنة، وقد لاقى كتابه عن هذه الحرب بعنوان The Utility of Force أصداء إيجابية واسعة.

ذكر سميث أن العنصر الأكثر أهمية في العمل الدولي تنوعه، وهو محق، يبقى الدرس الأهم من سربرنيتشا أن تأثيرات أنصاف التدابير قد تكون سلبية أكثر منها إيجابية، ويشير حق النقض الذي استخدمته روسيا أخيراً إلى أننا سنشهد المزيد من الانقسام وأنصاف التدابير.

* ديفيد رود

back to top