أوروبا والقشة الأخيرة

نشر في 11-11-2015
آخر تحديث 11-11-2015 | 00:01
منذ 2008 هناك تزايد مطرد لما تمثله روسيا من تحدٍّ أمني، لكنه بات خطيراً جداً منذ ضمت العام السابق على نحو غير شرعي شبه جزيرة القرم وغزت أجزاء من أوكرانيا، فضلاً عن تورطها في تهديد الاستقرار الأوروبي عبر ضلوعها في الأزمة السورية التي تسببت في مئات الآلاف من اللاجئين الذين يتدفقون الآن على أوروبا.
 بروجيكت سنديكيت يواجه الاتحاد الأوروبي مجموعة مخيفة حقاً من الأزمات، فبعد أزمات اليورو والديون السيادية التي امتدت فترات طويلة وحولت القارة إلى ساحة من الاستقطاب والراديكالية، وخلفت صدعاً عميقاً بين الشمال والجنوب، لعب قدوم مئات الآلاف من المهاجرين دور المحرض للشرق (بالإضافة إلى المملكة المتحدة) ضد الغرب، وإذا أضفنا إلى هذا الانقسامات والتناقضات العديدة فسيمكننا القول إن انهيار الاتحاد الأوروبي يبدو للكثيرين أمراً محتملاً أكثر من أي وقت مضي.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار الاختلافات الكبيرة بين سياسات الطاقة في مختلف دول الاتحاد الأوروبي، بداية من الهياكل المتضاربة لتسعير الطاقة والتي تجري في تناقض مع فكرة السوق الداخلية الواحدة، فضلاً عن تبني حلول متضاربة، فسيتبين أنه من الصعوبة بمكان تكامل الشبكات الوطنية للطاقة.

وعلي سبيل المثال، بينما تحصل فرنسا على معظم الكهرباء التي تحتاجها من الطاقة النووية، سارعت ألمانيا، بعد حادث محطة الطاقة النووية بفوكوشيما في اليابان عام 2011، إلى إغلاق محطات الطاقة النووية كافة لديها، في وقت تركز هي وإسبانيا الآن على الحصول على مصادر طاقة متجددة من الرياح والطاقة الشمسية، وستظلان رغم ذلك معتمدتين إلى حد بعيد على الوقود الأحفوري حين لا تتوفر الرياح أو الشمس.

هذا بينما يتضخم باطراد التحدي الأمني الذي تمثله روسيا منذ عام 2008، والذي أصبح خطيرا للغاية منذ ضمت روسيا في العام السابق على نحو غير شرعي شبه جزيرة القرم وغزت أجزاء من شرق أوكرانيا، إذ إن استمرار القتال والمزاعم في الحق في الأراضي التي لم تحل بعد قد أضفيا على المشهد شعورا بالضرورة الملحة لطرح قضية سياسة الطاقة الأوروبية، وعلى نحو خاص اعتماد أوروبا على الطاقة المستوردة على بساط البحث.

روسيا متورطة أيضا في تحد آخر خطير للأمن والاستقرار الأوروبي، أي الأزمة السورية، والتي تتسبب في مئات الآلاف من اللاجئين الذين يتدفقون الآن على أوروبا. وتعد أزمة اللاجئين جزئياً من تجليات فشل السياسة الخارجية الأوروبية في منع شمال إفريقيا والشرق الأوسط من الدخول في حالة من الفوضى، بيد أن هجوم روسيا على المجموعات التي تقاتل نظام الرئيس السوري بشار الأسد يضاعف تفشي الفوضى في أرجاء واسعة من البلاد، ويدفع بمزيد من اليائسين إلى البحث عن مأوي لهم في أوروبا.

وكأن هذه التحديات لا تكفينا، فها هو ذا الاتحاد الأوروبي يُبْتَلي بالتشكيك في شرعيته الديمقراطية، وها هي الأيديولوجيات المتطرفة تكتسب أرضا لها، وها هي الحركات الانفصالية تجدد نشاطها.

وفي النصف الأول من هذا العام، بدا اليونانيون مستثارين ضد أوروبا، وتتكرر دراما مماثلة الآن في البرتغال، حيث تشكل تحالف يساري يضم سياسيين شديدي العداء لأوروبا، بينما يصر الرئيس على أن حكومة يمين الوسط القديمة بوسعها الفوز بالدعم اللازم بالتأكيد على ارتباط البلاد بأوروبا، وقد تواجه إسبانيا قريباً معضلة مماثلة.

ببساطة، أوروبا أصبحت مثقلة بالأزمات، مثقلة إلى حد أن كثيرين يزعمون أن إرهاق أوروبا بلغ حد الشك في قدرتها على الاستجابة بكفاءة لأية تحديات جديدة قد تظهر، ووفقا لوجهة النظر هذه، فقد أفضت أعوام من الصدمة إلى استنزاف الطاقة النفسية التي تحتاجها قيادات أوروبا للفوز بالدعم اللازم لهذه الحلول، ولهذا السبب، كانت الاستجابة لأزمة اللاجئين منعدمة إلى حد بعيد.

بيد أن الاتحاد الأوروبي قد بُني علي أساس توقع حدوث أزمات، وكان جان مونيه، أحد الآباء المؤسسين للاتحاد الأوروبي، يستحضر مراراً فكرة أن الإلحاح الذي تتسم به حالات الطوارئ هو ما يقود إلى التكامل، وصاغ ذلك بأن "أوروبا ستتشكل من قلب الأزمات، وستكون محصلة مجموع الحلول التي وضعتها لهذه الأزمات".

ومع ذلك، قد يقول قائل إن على المشاكل التي تقود إلى هذه الأزمات أن تكون صغيرة حتى يمكن حلها؛ فالأزمة الطويلة أو تراكم مجموعة من المشاكل في ذات الوقت يهدد بالقضاء على قدرة الاتحاد الأوروبي على الاستجابة مما يؤدي في نهاية المطاف إلى انهياره. وفي هاملت، يقول كلوديوس متأملاً تدهور الحالة العقلية لأوفيليا: "لا تأتي الأحزان فرادي كالجواسيس، وإنما تأتي كتائب كالجيوش"، وهكذا في النهاية أصيبت أوفيليا بالطبع بالجنون وأغرقت نفسها.

بيد أن كلوديوس، القاتل الطاغية، ليس ينبوعاً للحكمة السياسية، وفي الحقيقة فإن مواجهة أزمات عديدة في ذات الوقت من شأنه أن يجعل حلها جميعا أمراً هيناً بتوسيع نطاق الخيارات، ويمكن أن يكون هذا الأسلوب في الاتحاد الأوروبي، حيث تعرقل المصالح المتنافسة الاستجابة الفعالة للأزمات، مفتاحاً للتقدم، ويمكن للاتحاد الأوروبي على هذا النحو، بعيداً عن المساس بسيادة الدول، أن يصبح ساحة للتفاوض للتوصل إلى حلول وسط مفيدة للأطراف كافة.

على سبيل المثال، أفضى امتناع ألمانيا عن تخفيف عبء ديون بلدان جنوب أوروبا إلى إطالة أمد محنة هذه الدول، والآن قد يتوفر لديها، مع ذلك، دافع كاف لعمل المزيد، فبوسعها حصد فوائد مباشرة من الحل الواسع النطاق الذي وضعه الاتحاد الأوروبي لأزمة اللاجئين، وبالمثل، يمكن للتكامل العسكري تعزيز الفعالية الاستراتيجية وتخفيض التكاليف، وبشكل خاص بالنسبة للبلدان ذات ميزانيات الدفاع الكبرى.

ويُستخدم أسلوب "ربط القضايا" هذا بالفعل في مفاوضات التجارة العالمية، وبرغم صعوبة تحقيق تقدم كبير لمصلحة أحد الأطراف، فإن هذا الأسلوب يفضي إلى حصول جميع المشاركين على مكاسب.

وبدلاً من عقلية الغرف المغلقة، على أوروبا استعادة عقلية عام 1989 حين دفعت حركة عدد كبير من الناس عبر الحدود، بداية من الحدود المجرية- النمساوية، عجلة الإصلاح والانفتاح، وإبان هذه الموجة من الثورات، كان المحتجون المتطلعون إلى الحرية يفكرون في طموحات أوروبا وطموحات بلدانهم على حد سواء، فتقوية الأول يتكامل مع شرعية الثاني.

وفي عام 2015، وليس بدرجة أقل مما كان عليه الوضع عام 1989، تحتاج الدول الأمم الأوروبية إلى ضمانات في مواجهة الضغط الخارجي والصدمات الاستراتيجية أكثر مما تستطيع تقديمه دولة بمفردها، والآن، الاتحاد الأوروبي وحده بوسعه تقديم هذه الضمانات.

* هارولد جيمس | Harold James ، أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية بجامعة برينستون، وأستاذ التاريخ بمعهد الجامعة الأوروبية بفلورنسا، وزميل مركز إبداع الحوكمة الدولية.

 «بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top