{هجرة الرسول}!
الأمر المؤكد أن هذا الفيلم، الذي أنتج في عام 1964، محفور في ذاكرتنا جميعاً بسبب الأغنية التي استهل أحداثه بها، وظلت بالنسبة إلى كثيرين منا بمثابة اللغز المستعصي على الفهم، لغموض كلماتها، وسحر إيقاعها، وغرابة لحنها الذي صاغه الموسيقار الكبير علي إسماعيل؛ فمن منا لم ينجذب إلى المقطع الذي يقول: {نحن غرابا عك عك}، وهو يرى الكفار وهم يطوفون الكعبة، ويبتهلون إلى الآلهة التي صنعوها بأيديهم مرددين في خشوع:
نحن غرابا عك عكعكٌ اليك عانيةعبادك اليمانيةكيما نحج الثانيةلبيك اللهم هبل لبيك يحدونا الأمل الحمد لك والشكر لكوكلنا نخضع لكأدرك معظمنا، بالطبع، أنها تلبية جاهلية لكن من منا يعرف أن قبيلة عك هي قبيلة يمنية كانت تقدم عبدين أسودين، عندما تحج، يسمونهما الغرابان الأسودان، وكان العبدان يصيحان: {نحن غرابا عك عك} فتردد القبيلة من خلفهما: {عكوا إليك عانية... عبادك اليمانية}، وعانية أي تقرباً وإخلاصاً أما عبادك اليمانية فهي تعني عبيدك من اليمن، وهي شعيرة تؤكد أنهم أمنوا بالله لكنهم أشركوا معه سواه، بينما يبرهن المشهد على أنهم كانوا يصلون، ويطوفون، ويسعون، وينحرون، ويحجون، لكن بطريقتهم الوثنية التي أفسدت ملة أبينا إبراهيم، لكنها لا تختلف عن تلبية الإسلام، الذي جاء ليحقق التوحيد الخالص لله عز وجل، ويحل محل الشرك والوثنية، بدليل أن تلبية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم تخرج كثيراً عن هذا المعنى.تفصيلة غاية في الأهمية تضع أيدينا على تفرد هذا الفيلم الذي كتب قصته عبد المنعم شميس وكتب السيناريو والحوار حسين حلمي المهندس، وتولى مراجعة السيناريو والنصوص واحد من علماء الأزهر الكبار هو فضيلة الشيخ أحمد الشرباصي، وأخرجه إبراهيم عمارة، فالعمل اتسم بجاذبية مشاهده، التي تصور حياة الجاهلية؛ حيث قانون الغاب، والحكم للقوة، وللقبائل التي تغير على بعضها، وعلى القوافل، بينما تسيطر الفوضى والفتن، ويطغى الإثم والفجور، واستباحة الأعراض بغير وازع من خلق أو دين، فضلاً عن وأد البنات درءاً للعار أو خشية إملاق! في هذا المجتمع المضطرب، الذي أهدرت فيه آدمية البشر، ولاقى فيه العبيد، مثل {حبيبة} (ماجدة) جارية أبو سفيان (محمد أباظة) و{فارس} (إيهاب نافع) أصناف العذاب، ظهر في مكة سيد من أكرم فتيان قريش هو محمد بن عبد الله، الذي عصمه الله من ضلال الجاهلية فانصرف عن فسادهم ولهوهم وكان يأوي إلى غار حراء بقمة الجبل حيث يقضي الأيام الطوال وحيدا يتأمل ويتعبد ويتحنث حتى نزل عليه جبريل الأمين بأول آية من الذكر الحكيم {اقرأ}، التي تلاها المخرج إبراهيم عمارة بصوته، مع تجسيد شخصية {أبو طالب} عم الرسول (ص)، لكن السيناريو أفرد مساحة غير قليلة للتعليق الصوتي، الذي تحدث عن نزول الوحي، والآيات المصاحبة له، حتى عاد ليقدم سادة قريش: أبا الحكم أو أبو جهل (عدلي كاسب)، سُراقة (لطفي عبد الحميد) وأبو سفيان وهم غارقون في الإثم والفسوق، ويتباحثون في أمر {محمد}، بينما تحرضهم الراقصة اليهودية اللعوب {سارة} (سميحة توفيق) على قتله، ما اضطره إلى الهجرة إلى المدينة!كعادة الأفلام الدينية لم يخل الفيلم من سذاجة فنية، كتصوير الشمس خلف السحب الملبدة، في إيحاء بأن النور قادم، وتمييز المؤمنين بالملابس البيضاء، بينما غضب الله مرسوم على وجوه الكفار، مع الاعتماد على الحكي بأكثر من الصورة، لكن الديكور، الذي صممه محمد عبد الفتاح البيلي وحبيب خوري، الذي صمم الملابس، والتماثيل التي نفذها محمود المغربي، أضفت مهابة على الشكل، بعكس شكل ايهاب نافع، الذي كان أقرب إلى بلطجية شارع عماد الدين، بصدره العاري والسوار الحديدي في معصمه، وبدت المناظر الداخلية هزيلة للغاية، وكذلك مشاهد التعذيب. غير أن الفيلم لا يخلو من طرافة، وسخرية، كإشارته إلى العاشقين {إيساف} و{نائلة} اللذين ضبطا يرتكبان الفجور في الكعبة، ومُسخا صنمين، ومع الأعوام نسي الجميع أمرهما فتحولا إلى إلهين مقدسين يعبدهما الناس، مثلما لم يخل من مبالغات، لكنه في النهاية جاء مقنعاً، منطقياً، ومؤثراً، في ظل الإمكانات الفقيرة المتاحة للقيمين على صناعة السينما المصرية، بل إن التجربة تكتسب الكثير من الأهمية مع الأخذ في الاعتبار أن {هجرة الرسول}، وغالبية الأفلام الدينية، أنتجتها شركات خاصة، ولم تقدم لها الدولة دعماً من أي نوع!