لقد أبعدت صورة «إيلان» صورة «الدرة» عن مركز التأثير في الرأي العام الإقليمي والعالمي، ومن منظور أشمل، فقد أبعدت مشكلات ما بعد «الثورات» القضية الفلسطينية عن مراكز التأثير والاهتمام لمصلحة قضايا أخرى طارئة بدت أكثر إلحاحاً وخطورة.

Ad

كانت صورة محمد الدرة الذي مات في حضن والده، بعدما عجز هذا الأخير عن حمايته من رصاصات الجنود الإسرائيليين، عنواناً عريضاً للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وتأطيراً لصورة طرفي الصراع، وهو التأطير الذي بدا أكثر موضوعية وصدقاً مقارنة بكل ما حاولت الدولة العبرية أن تختلقه في هذا الصدد.

لقد نجحت تلك الصورة في تقويض جزء كبير من الانطباعات المزورة التي بنتها إسرائيل عن هذا الصراع في مناطق عديدة من العالم، وزادت الاهتمام العالمي بالقضية الفلسطينية، وعززت التعاطف مع الحق الفلسطيني، ووضعت قيوداً على السلوك الإسرائيلي العدواني.

لكن الزخم الذي تولد عن تلك الصورة يبدو آخذاً في التبدد، كما أن صور العدوان الواسع الذي ضرب غزة أكثر من مرة في السنوات الأخيرة، مخلفاً دماراً وقتلى وجرحى بالآلاف، تبهت وتغيب عن الذاكرة في ظل تلاحق الأحداث.

لم يبد الغرب تأثراً وتعاطفاً بصورة عربية كما حدث مع صورة الطفل السوري "إيلان" الذي غرق في البحر المتوسط، وقذفه الموج جثة على أحد الشواطئ التركية، لتلتقطه عدسة مصور، فتصبح صورته عنواناً لانطباع غربي وعربي عام عن أزمة سورية ولاجئيها.

لقد أبعدت صورة "إيلان" صورة "الدرة" عن مركز التأثير في الرأي العام الإقليمي والعالمي، ومن منظور أشمل، فقد أبعدت مشكلات ما بعد "الثورات" القضية الفلسطينية عن مراكز التأثير والاهتمام لمصلحة قضايا أخرى طارئة بدت أكثر إلحاحاً وخطورة. لا يقتصر الأمر على الجمهور الغربي فقط، فلعلك لاحظت أن كثيرين من المواطنين العرب باتوا أقل اهتماماً بالقضية الفلسطينية مقارنة بأوقات ما قبل "الثورات".

يخوض الفلسطينيون معركة في القدس راهناً ضد السلطات الإسرائيلية التي تعتدي عليهم وتقمعهم وتقتحم الأماكن الإسلامية المقدسة، لكن العرب منشغلون بهمومهم المباشرة وأقل اهتماماً بما يجري في الأراضي المحتلة.

يلعب الإعلام دوراً مؤثراً في هذا الصدد؛ إذ تراجعت القضية الفلسطينية إعلامياً بشكل ملموس وواضح، في كل من الإعلام العربي والدولي، وهو أمر يكبد تلك القضية خسائر كبيرة، ويعرقل تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في الاستقلال والكرامة.

هناك دلائل واضحة على تراجع القضية الفلسطينية إعلامياً على الصعيد العربي؛ فيكفي فقط أن تقرأ عناوين الصحف اليومية الإقليمية أو المحلية في أي بلد عربي، أو أن تشاهد نشرات الأخبار الرئيسة، أو أن تقرأ المجلات والدوريات، أو أن تستمع إلى الأغاني والأشعار، لتكتشف على الفور أن نسب معالجة القضية الفلسطينية في تلك المجالات تتراجع باطراد، وتضيق المساحات المخصصة لها بوتيرة متسارعة.

كان المغرب العربي ذا اهتمام تقليدي بالقضية الفلسطينية؛ وهو اليوم مشغول إعلامياً بقضايا تخص التحولات السياسية الحادة في أعقاب ما سُمي بـ"الربيع العربي".

لن يكون بوسع ليبيا أن تركز إعلامياً في أي شأن سوى تحلل مؤسسات الدولة بها، والصراع بين الجماعات الإسلاموية التي تسيطر على السلطة في طرابلس في مقابل الحكومة والبرلمان الشرعيين في شرقي البلاد، إضافة إلى الخطر "الداعشي"، والاستقطاب الدولي، والتدخلات الإقليمية.

أما مصر فهي أكثر انشغالاً بذاتها من أي وقت مضى، وفي الوقت الذي يفقد إعلامها فيه الاتجاه، ويراوح بين محتوى سياسي متشنج وغارق في الانحياز ومحتوى ترفيهي منفلت وغارق في السوقية، لا تجد القضية الفلسطينية مساحات مناسبة لمقاربتها ومعالجة شؤونها.

يشعر كثير من المصريين بمرارة مما يتصورون أنه "تورط حمساوي في معركتهم ضد الإخوان"؛ وهو أمر يلقي بظلال على تفاعل قطاعات واسعة منهم مع المظلومية الفلسطينية.

فإذا انتقلنا إلى السودان، وقد كان مناصراً تقليدياً للقضية الفلسطينية، لوجدنا اهتماماً أكبر بالشأن الداخلي في ظل تحديات كبيرة، أدت إلى خفوت صوت المناصرة للقضية الفلسطينية في الإعلام السوداني بشكل واضح. أما المشرق العربي، فحدث ولا حرج، فسورية تتمزق تحت نيران حرب أهلية مدمرة، وضعت الشعب السوري في أجواء مأساة لا تقل كارثية عن تلك التي مر بها الشعب الفلسطيني، وفي غياب ضغوط "معاداة السامية" لا يجد العالم موانع من إظهار قدر أكبر مع التعاطف مع السوريين.

وما زال لبنان ضحية للتجاذب الذي أقعده أكثر من عام عن انتخاب رئيس، فضلاً عن اندلاع التظاهرات فيه ضد النخبة الحاكمة، في وقت يلتبس فيه العنصر الفلسطيني بين كونه قضية عربية عادلة من الواجب مناصرتها إعلامياً، وبين كونه مشروعاً للاستقطاب والتجيير السياسي في الصراع الداخلي.

سيكون العراق طبعاً بعيداً لسنوات طويلة عن القدرة على تسخير أي طاقة لموضوع ذي طبيعة قومية بسبب الانهيار الحاصل في هذا البلد؛ أما دول الخليج العربية المعروفة تقليدياً بمساندتها القوية للقضية الفلسطينية وخصوصاً على الصعيد الإعلامي، فإن "عاصفة الحزم"، والصراع مع إيران، وبعض المشكلات الداخلية تأخذها بعيداً شيئاً فشيئاً عن تلك القضية المركزية، ولا تسمح لها بإفراد المساحات المناسبة إعلامياً لمعالجتها ضمن وسائل إعلامها.

يموت جنود خليجيون في معارك يخوضونها في اليمن، لذلك فإن الاهتمام بقضية فلسطين يتراجع، وفي المقابل، فإن اليمن يعاني مأساته الذاتية؛ وهي مأساة أكبر من أن تمنحه رفاهية الحديث عن الفلسطينيين وأوجاعهم.

لقد هيمنت صورة الطفل السوري الغريق "إيلان" على التصور الغربي عما يجري في الشرق الأوسط، وسحبت الاهتمام عن القضية الفلسطينية، التي فقدت أيضاً جزءاً من الزخم الذي تمتعت به طيلة نحو سبعة عقود في السياسة والإعلام والفن والضمير العربي.

القضية الفلسطينية قضية العرب المركزية الأولى كما يقال منذ عقود، لكن تلك القضية تتراجع إعلامياً كلما كان وجود الدولة الوطنية العربية نفسه مهدداً، أو حينما تخوض تلك الدولة العربية صراعاً مع طرف آخر غير الطرف الإسرائيلي.

إن تراجع الاهتمام الإعلامي بالقضية الفلسطينية يفقدها قدراً كبيراً من الزخم الذي يحتاجه الشعب الفلسطيني لاستعادة حقوقه المسلوبة، وهو أمر يجب أن نساعده جميعاً في الوصول إليه، مهما كانت أمورنا صعبة ومشكلاتنا كبيرة.

* كاتب مصري